أنقرة وخطأ الرهان على أوجلان لحل المشكلة الكردية

أعلام تحمل صورة الزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان وكمال أتاتورك (يسار) خلال تجمع لأنصار حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد (رويترز)

تحقيقًا لهدف استراتيجي يتخطى في حقيقته كافة الأيديولوجيات، ويتجاهل جل الخلافات الماضية والحالية جاءت خطوة المصالحة مع الأكراد التي يصفها الساسة الأتراك بأنها تاريخية، سعيًا لإنهاء الصراع المسلح الدائر بينهم وبين الدولة التركية منذ عدة عقود.

ويقود مراحلها تحديدا دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية المشارك في الائتلاف الحكومي مع حزب العدالة والتنمية، المعروف بتشدده القومي، وعدائه المعلن للمكون الكردي، وتشجيعه الدائم للخيارات العسكرية لحل هذه المشكلة، في إشارة إلى حدوث تغييرات جذرية في موقف الدولة التركية من هذه القضية.

سر التحول التركي اتجاه الأكراد

توحيد جميع أطياف الجبهة التركية الداخلية للتصدي للأخطار الخارجية التي أصبحت الدولة قاب قوسين أو أدنى من مواجهتها، نتيجة اتساع رقعة الصراع الدائر في المنطقة، وتصريحات قادة الكيان الصهيوني بأطماعهم الرامية إلى استغلال حالة الضعف الذي تعيشه العديد من دول المنطقة لتغيير الشرق الأوسط، وإقامة إسرائيل الكبرى، هو السر وراء هذا التحول التركي الكبير اتجاه الأكراد.

لكن الرياح لا تأتي دوما بما تشتهي السفن، إذ هبت عواصف عاتية من كل حدب وصوب، عندما قرر الائتلاف الحاكم -الذي يضم حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية- الكشف عن المباحثات السرية التي تتم منذ عدة أشهر بينه وبين عبد الله أوجلان الزعيم الروحي والتاريخي لحزب العمال الكردستاني، المسجون في جزيرة إيمرالي منذ عام 1999 بتهمة الخيانة والسعي لتقسيم الدولة، لوضع حد لهذا الصراع الذي يستنزف قدرات الدولة سياسيا وعسكريا وأمنيا.

فحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، الذي يمثل الأكراد على الساحة السياسية الحزبية، المعني الأول بهذا التحرك من جانب الدولة، تأرجحت مواقفه بين القبول والرفض، ففي التصريحات الأولى التي صدرت عن قادة الحزب كان هناك ترحيب شديد بدعوة بهشلي، وإعلان لاستعدادهم التام لتولي مهمة التقريب بين وجهات نظر الجانبين حتى الوصول إلى سلام، وصفوه بأنه “مشرف” ينهي هذا الصراع الذي يخسر فيه الجميع أتراكا وأكرادا.

لكن مع تباين الردود الواردة من شمال شرق سوريا، وجبال قنديل بالعراق، وبعض العواصم الأوروبية حيث تتمركز العديد من قيادات حزب العمال الكردستاني، تراجع الحزب عن ترحيبه، ولفّت حالة من الغموض تصريحات قياداته، التي أصبحت في مأزق لا تحسد عليه.

فرفض المقترح يعني التخلي عن زعيمهم أوجلان، وتركه في محبسه الانفرادي يواجه مصيره دون أي أمل في استعادة حريته بقية عمره، والقبول به يعني حل حزب العمال الكردستاني، وإلقاء السلاح، وانتهاء مرحلة الكفاح المسلح، أي القضاء على حلم دولة كردستان، وهما خياران أحلاهما شديد المرارة.

تباين الردود الكردية

حالة التخبط والإرباك التي سببتها دعوة بهشلي تخطت حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب إلى قيادات حزب العمال الكردستاني أنفسهم، فمنهم من أعلن صراحة أنه في حال قبول عبد الله أوجلان بمقترح بهشلي، ورغبته في تنفيذه، فإنهم سيكونون جاهزين للقبول بكل ما سيطلبه منهم، وهؤلاء هم الذين لا يزالون يدينون بالولاء للرجل الذي يرونه -رغم سنوات سجنه- القائد، والزعيم التاريخي، والأب الروحي لحركة المقاومة الكردية المسلحة.

وهناك من يثمنون مواقف أوجلان بصفته المؤسس للحركة الكردية الساعية لإقامة دولة كردستان المستقلة، لكنهم في الوقت نفسه يرون أن ظروف سجن الرجل، وفقدان قيادته للحزب، أبعدته عن مجريات الأمور، لذا لم يعد يدرك حجم التطورات الإقليمية التي شهدتها المنطقة، أو التغييرات التي حدثت داخل الحزب.

إذ أصبح هناك قادة جدد يتولون إدارة دفته منذ ربع قرن، ويتولون مهمة تدريب الآلاف من المقاتلين، الذين يدينون لهم بطبيعة الحال بالولاء، فهم يسمعون فقط عن أوجلان كتاريخ، لكنهم يتعاملون مع هؤلاء القادة كواقع.

وهم القادة الذين سيكون من الصعب عليهم في مقابل الإفراج عن أوجلان تسريح كل هؤلاء المقاتلين، والتخلي عن السلاح، في ظل اعتماد استمرار بقائهم على المعارك التي يخوضنها؛ لأن ذلك لا يعني فقط نهايتهم، بل القضاء أيضا على حلم إقامة دولة كردستان المستقلة، التي تؤكد التطورات في المنطقة، وحالة التخبط والفوضى التي تمر بها، أن تحقيقه أصبح في متناول اليد، وأن مطالبتهم بالتخلي عن السلاح الآن، والبدء في حوار سياسي يفضي إلى التصالح مع الدولة التركية ليس في مصلحتهم، حتى وإن كان الثمن التضحية بأوجلان نفسه.

خطورة الفصيل الرافض للمصالحة

وهؤلاء هم الفصيل الذي تجاهلت تركيا وجوده حينما راهنت فقط على القيمة التاريخية التي يمثلها أوجلان لعناصر حزب العمال الكردستاني، ولم تلتفت إلى تأثير القادة الجدد الكبير في مسارات الحزب، وتحالفاته، ومنطلقاته السياسية بعد أن تولوا إدارته، واستطاعوا خلال العقود الماضية تجنيد آلاف الشباب الذين يقدر عددهم حاليا بـ70 ألف مقاتل يأتمرون بأمرهم، وينفذون خططهم.

وهو نفس الفصيل المدعوم عسكريا ولوجستيا من الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، وألمانيا، الذي يتم الاعتماد عليه في تنفيذ مخططات هذه الدول، والدفع به لخوض المعارك نيابة عنها مقابل دعمها له عسكريا وسياسيا، والسماح له بممارسة أنشطته المالية والاجتماعية على أراضيها دون قيد أو شرط، ووعود بدعمها له في تحقيق حلم إنشاء دولته المستقلة.

لهذا كان تحركه المباشر باستهداف أحد مقرات الصناعات الدفاعية بأنقرة فور الإعلان عن تفاصيل مقترح بهشلي، وإعلان مسؤوليته عن الهجوم، رسالة تؤكد استمراره على نهجه، ورفضه عقد أية مصالحة مع الدولة التركية، حتى وإن تم ابتزازه عاطفيا بمقايضة حرية أوجلان بإلقاء السلاح.

بارونات الإرهاب والعقبات المتوقعة

وهو ما رد عليه الرئيس أردوغان بالقول إنه يأمل أن تكون هذه المصالحة أبرز إنجازات مسيرته السياسية، مؤكدا أن دعوتهم التاريخية إلى المصالحة ليست موجهة إلى من سماهم “بارونات الإرهاب” في سوريا والعراق.

وهو التصريح الذي يؤكد عزم تركيا وإصرارها على المضي قدما في هذا الطريق حتى إنهاء المشكلة الكردية من جذورها، وإغلاق صفحات هذا الملف برغم العقبات التي يمكن أن تواجهها في سبيل تحقيق ذلك.

التحرك الكردي العنيف ضد مقترح المصالحة أوضح أن حل المشكلة الكردية في تركيا أصبح يتخطى مسألة الاتفاق مع عبد الله أوجلان برغم أهميته، وأن أنقرة بحاجة فعلية إلى مراجعة موقفها، وإعادة صياغة مقترحها حتى يكون جاذبا للمزيد من الفصائل الكردية إذا كانت جادة في سلك هذا الطريق لضمان تحقيق هدفها الاستراتيجي الذي تسعى إليه، ألا وهو إفشال مخططات استهدافها، والحد من انطلاقها، وتحجيم دورها إقليميا ودوليا لمصلحة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والحيلولة دون توظيف مشكلتها مع الأكراد، واستخدامهم رأس حربة ضدها.

أوجلان لم يعد مفتاح الحل

ويهدد انفصال الأكراد -في حال حدوثه- الأمن القومي التركي على صعيدين، أولهما انتزاع مساحة لا بأس بها من أراضي الدولة التركية، وتحديدا في مناطق الأناضول، حيث ينبع نهر الفرات الذي تندرج جغرافيته ضمن ما يطلق عليه “النبوءة اليهودية”، وثانيهما وصول جغرافية الدولة الإسرائيلية إلى خط حدود تركيا، إذا ما نجحت إسرائيل في احتلال أجزاء من الأراضي السورية المتاخمة لأراضيها، أو من خلال إنشاء كيان كردي يدين لتل أبيب بالولاء.

واستباقا لهذه السيناريوهات التي تمثل كابوسا حقيقيا لأنقرة، كان لا بد من سد الذرائع، والسعي لتصفير كافة المشاكل، وإنهاء جميع الخلافات التي يمكن أن تكون منفذا لتحويل هذه السيناريوهات إلى واقع حقيقي يقود المنطقة بكاملها -وليس تركيا فقط- إلى مستقبل مظلم لا يبشر بخير، وفي مقدمتها المشكلة الكردية، التي يتم توظيفها علنا للنيل من استقرار الدولة التركية.

وهو ما يمكن أن يتأتى عبر مقترح المصالحة التي يتبناها زعيم الحركة القومية، المدعوم من حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، لكنه يحتاج فعليا إلى إدخال بعض التعديلات عليه، والتعامل بجدية مع مواقف باقي الفصائل الكردية الموجودة في سوريا والعراق وأوروبا، والسعي لتغيير مواقفها المتشددة بإدخال بعض الفقرات التي تلبي ولو جزءا يسيرا من مطالبها، لضمان قبولها من جانب هذه الشرائح ذات التأثير الفعلي في القرار الكردي، فأوجلان لم يعد بمفرده مفتاح الحل.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان