فوز غورباتشوف الأمريكي

خبر فوز ترامب في الصحافة البريطانية (الفرنسية)

 

(1) الأمور ليست على ما يرام كما يدعي الديمقراطيون

تكرار الحديث عن الإنجازات لا يحولها إلى حقائق، هذا ما أكدته نتائج الانتخابات الأمريكية التي فاقت كل التوقعات حيث فاز ترامب فوزا كاسحا وبفارق كبير عن منافسته التي احتمت بمظلة بايدن البالية، رغم أن استطلاعات الرأي كانت تؤكد التقارب بينهما بل أحيانا كانت تظهر تقدم هاريس، وهذا يقلل من أهمية هذه الاستطلاعات مستقبلا ويضعها في دائرة الشك والتضليل.

الاقتصاد والهجرة هما العكازان اللذان استند عليهما ترامب في حملته الانتخابية وهما أمران يهمان غالبية الشعب الأمريكي لتأثيرهما المباشر في جودة حياتهم اليومية، في حين استندت كامالا على إنجازات سلفها بايدن وبالغت في الدفاع عن نجاح سياسته الاقتصادية؛ مما جعلها في نظر ملايين الأمريكيين مجرد ظل لبايدن، فشخصيتها الباهتة وتمسكها بقضايا فرعية مثل حق الإجهاض وعدم تقديم رؤية اقتصادية عملية ومستقلة بعيدا عن نهج سلفها كل ذلك أضعف موقفها، كما ساهم بايدن في ذلك، مرة حين تأخر في التنحي عن المنافسة الرئاسية ولم يترك لها سوى 3 أشهر تقريبا لتقديم نفسها للناخبين، ومرة أخرى حين وصف مؤيدي ترامب بأنهم زبالة، قبل الحسم الرئاسي بأيام معدودة، واستغل الأخير الأمر، لتقديم نفسه كزعيم شعبي يحترم ويدعم الفقراء والمهمشين مقارنة بزعماء الحزب الديمقراطي النخبويين المتعالين. سياسة بايدن الخارجية المنحازة لإسرائيل التي تغض الطرف عن الإبادة الجماعية في غزة ساهمت أيضا في خسارة هاريس أصوات الناخبين الرافضين لحرب غزة، وفي حين تحدثت هاريس كثيرا عن العدالة واحترام القانون، بصفتها مدعية عامة سابقة، كان الواقع يكذبها فهي شريكة لبايدن بحكم كونها نائبته.

(2) ترامب يتقن التلاعب بالعقول

الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها فئات كثيرة من الشعب الأمريكي من أصحاب التعليم دون الجامعي والدخول المتدنية وفي مقدمتهم الشباب تبدو واضحة في عودة هؤلاء الشباب إلى العيش مع والديهم بنسب متزايدة، لعدم قدرتهم على الاستقلال بحياتهم في سكن خاص بسبب غلاء المعيشة وارتفاع إيجارات المساكن. وحين تحدث ترامب عن فشل بايدن ونائبته هاريس اقتصاديا وعن أخطار الصين وضرورة زيادة الضرائب على واردتها وجد آذانا صاغية، وهو بذلك يخاطب وعيًا تشكل بين ساسة أمريكيين ونسبة كبيرة من المواطنين بأن التجارة الحرة والعولمة قوضت الطبقة العاملة في أمريكا.

هؤلاء يتذكرون صدمة الصين الشهيرة فيما بين عامي 1999 و2001 التي أدت خلالها الزيادة الكبيرة في الواردات الصينية إلى خسارة ما يقرب من 2.4 مليون وظيفة أمريكية. الأمريكيون البسطاء يصدقون ترامب ولا يستوعبون أن المشكلة الحقيقية هي تراجع مستوى الصناعات الأمريكية وعدم قدرتها على منافسة الواردات الصينية التي قلصت بالفعل الوظائف في قطاع التصنيع لكنها ضاعفت الوظائف في قطاع الخدمات. عامة الأمريكيين يريدون تصديق ترامب لأنه يحدثهم بلغتهم وفكرهم ويؤكد لهم أن العيب ليس فيهم بل في منافسي أمريكا. هؤلاء الناخبون لا تهمهم كثيرا نتائج الحرب الأوكرانية، بل يشغل بالهم التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ولا تهمهم حرب غزة ولبنان بقدر ما يهمهم توفير مساكن لائقة لآلاف العائلات الأمريكية العاجزة عن توفير مسكن لائق بسبب ارتفاع الإيجارات والتملك، لذا فحين تحدث ترامب عن قدرته على إيقاف الحرب في أوكرانيا وغزة وبالتالي وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا وإسرائيل فهو يمس وترًا حساسًا عند دافعي الضرائب وشعورهم بأنهم أولى من غيرهم بالإنفاق على خدمات تعود عليهم بالفائدة بدلا من مساعدة دول تبعد عنهم آلاف الأميال  في حروبها.

وجد شعار ترامب “أمريكا أولا” صدًى لدى فئات كثيرة من الأمريكيين المنشغلين بلقمة العيش وليس الأيديولوجيات.

(3) الحلفاء قلقون والمنافسون ينتظرون

الحلفاء الأوروبيون قلقون من تصريحات ترامب بشأن أوكرانيا وزيادة نسبة الضرائب على الواردات الأوروبية، وذكرت صحيفة بوليتيكو أن الاتحاد الأوروبي أعد إجراءات في حال نشوب حرب تجارية كبيرة مع أمريكا، كما صرح الرئيس الفرنسي ماكرون بأن فرنسا وألمانيا ستعملان على إنشاء أوروبا “أكثر سيادة واتحادا”. الرئيس الأوكراني زيلينسكي سارع بالاتصال بترامب بعد فوزه راجيا مواصلة الحوار وتعزيز التعاون بين البلدين، وفي المقابل قال مدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي إن ترامب يكره بشدة إنفاق الأموال على “الطفيليين”، وأوكرانيا واحدة منهم!

ارتفعت مؤشرات البورصة في روسيا بعد فوز ترامب على أمل توقف الحرب مع أوكرانيا، في حين انخفضت العملة الإيرانية أمام الدولار، وأكدت الصين استمرار التعاون مع الولايات المتحدة، أما إيران وحزب الله وحماس فيجدون أن ترامب لا يختلف كثيرا عن بايدن، وفي المقابل عم التفاؤل إسرائيل، ونتنياهو يأمل هدايا ترامب المجانية وأن يضغط سيد البيت الأبيض على الدول الحليفة لأمريكا في المنطقة لاستكمال اتفاقيات التطبيع وزيادة العقوبات على إيران والسماح لإسرائيل بتدمير مشروعها النووي.

(4) العالم أكبر من أمريكا

العالم الذي تركه ترامب (78 عاما) في عام 2020 ليس هو نفسه عالم 2025، وما حدث في ولايته الأولى لا يمكن القياس عليه الآن، لأن الظروف تغيرت، والدول المقتنعة بضرورة تأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب، لا تقوده أمريكا منفردة، أصبحت أكثر عددا وعدة.

ترامب النرجسي يريد أن يترك وراءه إرثا تاريخيا غير مسبوق في ولايته الثانية والأخيرة؛ لذا سيسعى بقوة وحماقة لتنفيذ وعوده الانتخابية المضادة لمصلحة حلفائه الغربيين والمنافسين على حد سواء.

شعار “أمريكا أولا” الذي منحه فوزا تاريخيا في الداخل الأمريكي، لن يحقق له أي مجد على الصعيد الدولي بل العكس، وكثرة التلويح بعصا العقوبات وقوة أمريكا العسكرية، ستضعف مكانة وهيبة أمريكا، والانقسام والاستقطاب الذي حدث في المجتمع الأمريكي منذ تولي ترامب الحكم في 2016 وحتى الآن، سيحدث مثله على المستوى الدولي.

أمريكا ليست الوحيدة التي تعاني من أزمة اقتصادية، بل إن معظم دول العالم كذلك، لكن ترامب سيسعى لحل مشاكل بلاده ولو على حساب الدول الأخرى، ولن يتبع سياسة “الكل فائز”. الاقتصاد يحكم السياسة وخاصة في وقت الأزمات الاقتصادية، وستدافع كل الدول الكبرى عن مصالحها الاقتصادية ورفاهية شعوبها وهذا سيعجل بانهيار النظام العالمي الحالي وستتسارع محاولات التخلص من سيادة الدولار على التعاملات التجارية الدولية وهذا سيؤدي إلى أزمة كبرى في أمريكا وستكون له تداعيات كثيرة. أمريكا ستصبح أمة عظيمة لكن ليست الأعظم، قوية لكن ليست الأقوى، وسيذكر التاريخ ترامب بأنه “غورباتشوف الأمريكي” الذي سقطت في عهده الإمبراطورية الأمريكية العظمى.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان