“حلب”.. عندما يوجع “بشار الأسد” إسرائيل!
حلب درة الشام، المدينة التجارية- الصناعية المتخمة بالثراء والعراقة والتاريخ. عاصمة الحمدانيين التي دمّرها الفرس والمغول، وأكمل حافظ الأسد سلسلة المجازر في الثمانينيات من القرن الماضي بمجزرة المشارقة، التي نفذّها المقدّم هشام معلا، ودفن ضحاياها في مقبرة جماعية، وسويت المنطقة بالأرض، وأقيم مكانها مسجد باسم الرئيس حافظ الأسد، وراهنت السلطة وقتها على محو ذاكرة السوريين بإزالة المنطقة بأكملها.
سبق بشّار الأسد الفرس والمغول، وتفوّق على أبيه بتدمير حلب القديمة بآثارها وتاريخها، وقتل البشر، وكانت أعنف مجزرة قام بها “مجزرة النهر” حين استفاق أهل حلب على جثث أولادهم وهم مقيدو الأيدي والأرجل وقد لفظهم نهر قويق على جانبيه قرب بستان القصر.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسالة لصديق بغزة انقطعت أخباره
الأمان المفقود في إسرائيل!
ماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟
لقد سعى النظام إلى استئصال كلّ ما يرمز للثورة وأيقوناتها، لأنّه فهم قضية ارتباط وعي الثوار بالذاكرة والمواقف التي رسمها أمثال “حجي مارع” و “أبو الفرات” في أذهان الثوار وتفكيرهم. ولم يكتفِ بالهدم والقتل لمحو تلك الذاكرة، بل ذهب بعيدًا حين دمّر قبور الشهداء ومثّل بجثمانهم، وسعى لتغيير معتقدات الناس، وتزييف وعيهم لتأكيد انتصاره!
معركة ردع العدوان
اعتاد بشار الأسد دائمًا على قصف قرى ومدن الشمال الغربي كلّما قصفت إسرائيل موقعًا ما داخل سوريا، ليثبت لمواليه أنّ الفصائل المسلّحة في الشمال مدعومة من إسرائيل، إذن هو يوجع إسرائيل في هذا الرد!
ومع تطور الأحداث الدامية في لبنان والتدمير المستمر لقدرات حزب الله، وجدت تركيا الفرصة سانحة، وعلى طبق من ذهب. وهنا نُذكّر بالدعوات التركية الملحة والمتتالية للتطبيع مع بشار الأسد الذي لم يستطع تنفيذ رغبة الغرب وإسرائيل بطرد الوجود العسكري الإيراني من سوريا، ولم يوافق على المتطلبات التركية للتطبيع، وظلَّ أمينًا للداعم الإيراني- وكذلك نُذكّر بتصريحات وزير الخارجية التركية المُطالبة بوقف الهجمات على الشمال، وفي الشمال يعيش الناس منذ بضعة أشهر أجواء الاستعداد لاستعادة بيوتهم، بحرب قادمة، ولأوّل مرّة في تاريخ الثورة السورية تتفق فصائل الجيش الوطني في منطقة غصن الزيتون مع الفصائل الإسلامية في إدلب على شن معركة مشتركة ضدّ جيش الأسد والميليشيات الإيرانية الموجودة معه.
ولأوّل مرّة تخوض هذه الفصائل حربًا لا توجد فيها رايات إسلامية، فقط علم الثورة، فجاء التوقيت دقيقًا، وتسمية العملية (ردع العدوان) أكثر دقة، مما أسهم بشكلٍ فعّال في نجاح هذه المعركة، أضف إلى ذلك أنّ المقاتلين على الأرض هم من المُهجَّرين منها أصلاً، فخاضوا المعركة لأجل بيوتهم وأراضيهم. المفاجأة المذهلة كانت بضعف محاولة التصدي للمهاجمين أو يمكننا القول إنّ ثمّة أوامر بالانسحاب، لم يتجاوز عدد القتلى في الطرفين الثلاثمئة قتيل، وهذا العدد قبل سنوات قليلة كان يتم تجاوزه في يوم واحد ببرميلين متفجرين.
تقاطع مصالح الدول الفاعلة
هل حقًّا ذهب الأسد إلى موسكو ليطمئن على حالة أسماء وهي تعالج سرطانها؟ أم أنّ ثمّة ترتيبات تمّ التوافق عليها بين تركيا وروسيا في ظلّ غياب القرار السيادي لسوريا، وغياب القرار السيادي لفصائل الشمال. فقد غاب الطيران الروسي عن سماء المعركة، وتقدّم أبناء الأرض لاستعادة بيوتهم بسلاسة وسرعة مذهلتين. واستفاد أبناء الشمال من هذا التقاطع في مصالح الدول الفاعلة، مثلما ستستفيد تركيا من مسألة وجود اللاجئين السوريين على أراضيها، ويبقى الأهم أنّ ثمّة مليون خيمة آن لها أن تُقتلع، وآن لأبناء الخيام أن يتخلّصوا من هذه المعاناة.
النزوح والنزوح العكسي
مشاعر مختلطة من الخوف والفرح. اختلجت في نفوس السوريين في شتى بقاع الأرض، الفرح بعودة اللاجئين بأي وسيلة كانت والخوف من التالي إذ لا أمان في تقاطعات المصالح الدولية، فهي على الدوام متغيّرة، وتحمل الخير لناس والشر لآخرين.
قبل وصول قوات المعارضة إلى مشارف حلب، ازدحمت الطرقات في أحياء حلب الواقعة على الأطراف بالنازحين.
منظر يُذكّرنا بنزوح أهل حلب بالباصات قسرًا عام 2016 مع فارق بسيط، ففي النزوح الأوّل كان النازحون من أبناء الأرض، أمّا في هذا النزوح فمعظمهم -إن لم نقل جميعهم- كانوا من المستفيدين من طرد أبناء حلب قبل سنوات.
انقسام في الآراء والتخوف من سيطرة الإسلاميين
تباينت آراء السوريين بشكلٍ حاد أمام هذا الحدث، ففي الوقت الذي عبّر معظمهم عن فرحته العظيمة بالتّحرير -وأقول تحريرًا بسبب وجود القوات الإيرانية على الأرض السورية، رأى كثيرون أيضًا أنّ الجولاني الذي دمّر في عام 2013 وما بعدها فصائل الجيش الحرّ، وأنهى وجوده تمامًا، وكذلك اعتقل شرفاء الثورة السورية، وقتلهم في سجونه لا يمكن له أن يكون في صفوف الشعب الثائر، وإنّما هو خنجر في ظهر الثورة السورية، خاصة وأنّه عندما استقرَّ له الأمر، لم يختلف في سياسته الاقتصادية والسياسية عن بشار الأسد.
نظرة أخيرة على ما يجري
الأسئلة التي تقلق العقلاء الآن: ماذا بعد؟ وإلى أين ستمضي الأمور؟ هل هي معركة تحرير حقّا؟ ما الثمن الذي ستدفعه المدن المحرّرة؟ هل ستكون هناك حكومة وطنية تدير المناطق المحرّرة؟
أم سيبقى السوريون منقسمين على أنفسهم يتقاتلون حسب أجندات الدول الموجودة في سوريا؟
بالعودة إلى بداية الثورة، كانت حناجر الشباب في المظاهرات تطالب بإسقاط النظام، وبدولة مدنية، تطالب بالعدالة والحريّة. فهل سيحظى الشعب السوري بحكم عادلٍ وبلدٍ آمن، أم سيحكمه المتطرفون الذين أعلنوا الحرب على النظام؟
هل يستطيع أهل حلب بعد مضي اثنتي عشر سنة على الثورة -وهم تحت حكم النظام وإدارته- القبول بحكم “الجولاني” رغم خطاب الطمأنة الذي ألقاه بعد تحرير حلب، أم أنهم سيبقون مخلصين لذاكرة السمك التي عُرفوا بها منذ بداية الثورة؟
المستقبل وحده سيحدد الإجابة عن هذه التساؤلات وإن كانت المقدّمات التي بين أيدينا تنبئ سلفًا عن النتائج.