مصر.. من المصالحة إلى “إمام عاشور”
في اليوم التالي لتصريحات رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي المهمة التي تكشف احتمالية صعود سعر الدولار مقابل الجنيه، كان المشهد العام في مصر غريبًا لأبعد مدى.
الجميع يعلم أن أي تحرك في سعر الدولار يقابله تأثيرات اقتصادية صعبة على مستوى معيشة غالبية الناس.
اقرأ أيضا
list of 4 items25 يناير.. الحرية والمرأة والفن
غزة الأمل بين المتشائمين ومحترفي الصفقات!
في غزة قادة حرب ورجال تفاوض
ومع ذلك تحول الجدل العام عن هذه التأثيرات المهمة والصعبة واتجه ناحية لاعب الأهلي إمام عاشور!
فرض النادي غرامة كبيرة على لاعبه بعد أن اتهمه بسوء السلوك والتعدي بالقول على كابتن الفريق ومديره الرياضي.
تناسى الناس ما قاله مدبولي لصالح ما فعله عاشور وما أقره ناديه.
في الجدل العام بمصر تغيب الأولويات، فيتراجع المهم ليحل محله الأقل أهمية.
وفي التغاضي عن مناقشة الأهم حالة من الإحباط والاستسلام تسكن المجتمع وتدفعه دفعًا للصمت وبلع اللسان.
يومان فقط من حوار حاد ثم يتحول الجميع ناحية القضايا غير المهمة.
هكذا يدور النقاش في مصر منذ سنوات.
تصريحات مدبولي ومرور الكرام:
مدبولي قال، خلال مؤتمر صحفي من ميناء دمياط الخميس الماضي، إن الدولة ملتزمة بسعر مرن ولا تقييد لأسعار الصرف مضيفا أن الدولار ارتفع أمام كل عملات العالم.
في حديث رئيس الوزراء المصري ما يوحي بارتفاع قادم للدولار مقابل الجنيه، تؤثر بالتبعية على أسعار السلع والخدمات على غالبية الناس الذين يعانون من غلاء غير مسبوق، ويواجهون مستويات مرتفعة من التضخم ضربت بشدة قدرة الطبقات الفقيرة والمتوسطة على الحياة.
في تبريرات مدبولي لما سيحدث قريبًا بالقول إن الدولار بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية أصبح قويًا أمام كل العملات سواء الإسترليني أو اليورو، ما يؤكد أن الاتجاه العام هو قبول الحكومة لارتفاع سعر الدولار، وما يمهد الأرض مبكرًا ليتقبل المصريون ما هو قادم دون صدمة تدفعهم أو غضب أو تذمر.
بنظرية التسليم للأمر الواقع تسعى الحكومة المصرية إلى فرض سياستها على المواطن الذي بات لا يطيق جنون الأسعار، ولا يعرف كيف سيدبر شؤون حياته التي تأثرت كما لم يحدث من قبل.
غاب النقاش الجاد عن تصريحات مدبولي المهمة، وسيطرت أزمة لاعب الأهلي على شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الصحفية، وغرق معها المواطن الذي ينتظر مزيدًا من الارتباك في حياته في الجدل والتفاصيل والشد والجذب الكروي.
هذا غياب من لا يملك غير التسليم بواقع لا يقبله.
مصالحة أم مناورة؟
قبل تصريحات مدبولي، وأزمة إمام عاشور، كان حوار قد بدأ حول قرار محكمة مصرية بحذف أسماء نحو 700 مواطن من قائمة الإرهاب.
بجدل كبير وانقسام حول قرار المحكمة قفز الحوار إلى ما اعتبره البعض بداية لمصالحة سياسية بين السلطة الحالية وجماعة الإخوان المسلمين.
الانقسام المجتمعي ظهر بشكل جلي خلال الحوار المهم، فالبعض اعتبر الخطوة بداية للمصالحة، فيما اعتبرها آخرون مجرد مناورة سياسية من النظام الحالي لأسباب اختلفوا في تقديرها. ثم إن البعض اتفق على أهمية لمّ شمل المجتمع، فيما اعتبر البعض الآخر أن عودة الإخوان للمشهد السياسي مرفوضة وليس لها ما يبررها!
يومان فقط وأُغلق الحوار المهم لصالح إمام عاشور وسلوكياته!
ليس الحديث في شأن كرة القدم بالعيب، لكن العيب المؤكد أن يهتم المواطن بالكرة دون سواها.
ولهذا الاهتمام المفرط أسبابه الواضحة
أصعب ما يواجهه المجتمع المصري منذ سنوات عدة هو أن النقاش العام يتحكم فيه منطق الأبيض والأسود، عودة أو لا عودة، مع بالكامل أو ضد كلية، لا تحليل للأسباب والدوافع، ولا فهم للواقع والمناخ العام، ولا تقدير للحظة وتفاصيل ما فيها.
ثم بعد الأبيض والأسود ينتهي الحوار بشكل سريع إلى “تريند” أقل أهمية يخطف الأنظار ويستحوذ على العقول.
بمقدار سخونة وخطورة ما مر من أحداث في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، وبقدر ما زاد الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي سيطر التفكير “بالأبيض والأسود” على الجميع، سلطة ومعارضة ومواطنين عاديين!
ومع ذلك لا داعي للقلق، فقد أغلق عاشور وقضيته الحوارات جميعها، وذهبنا جميعًا إلى أبيض وأسود آخر انتقل من السياسة إلى الكرة، ومن الدولار والمصالحة إلى الأهلي والزمالك!
ما تحتاجه مصر
في إغلاق المجال العام تمامًا طوال سنوات مضت إجابة حقيقية عن السؤال حول تراجع الجدل والحوار الجاد في مصر.
فلا نقاش يمكن أن يبدأ أو يستمر مع السيطرة الكاملة على قنوات الحوار والتواصل بين الناس، ومنعهم من التنظيم والتفكير على السواء.
بفداحة شديدة خسر المشهد العام كل الأفكار التي يمكن أن تدفعنا خطوات للأمام وتبني طريق للمستقبل فبتنا “محلك سر”!
ذهبت السلطة الحالية لأبعد مدى بسيطرة قاسية وغير مسبوقة على الحياة العامة، فلا أحزاب ولا نقابات ولا إعلام ولا جمعيات.
في التسلط بهذه الدرجة غير المعقولة على المجتمع المدني ما يقلل من قيمة الجدل والحوار، ويدفع الناس للهروب إلى البضاعة المعروضة!
وما هو معروض من بضاعة الآن ليس إلا الرياضة وتفاصيلها وقصصها اللطيفة!
اللاعب المتمرد والطرد غير المستحق والحكم المنحاز والنادي الذي يهزم الجميع!
ستستمر حكاية لاعب الأهلي أهم من كل القضايا ما بقيت السيطرة على الحياة السياسية، وسيهرب الناس من صدمة تصريحات مدبولي وأهمية الحديث عن المصالحة وتأثيرها إلى قصة محمد عادل حكم مباراة الزمالك والبنك الأهلي ما دام المناخ العام طاردًا للتفكير الجاد وللاهتمام برسم خريطة لمستقبل أكثر عدلًا وحرية.
بدواعي الخوف من الحديث في الشؤون العامة انصرف الناس عن العمل العام.
والأكيد أن عودة اهتمام المصريين بالقضايا الحيوية لن يأتي إلا بعودة السياسة، وبمجتمع حر يستوعب جميع الرؤى والأفكار والبرامج ويتفاعل معها بالموافقة أو الرفض.
المؤكد أن هذا الحل في يد السلطة الحالية وحدها، وعليها الاختيار بين مجتمع قوي وفاعل، أو استمرار الناس في تجاهل مصيرها ومستقبلها لصالح غرامة اللاعب الأهلاوي وخطأ حكم الـ”فار”.