كنافة مبرومة بدماء وعظام الشعب السوري
ربما كان مفيدا اليوم مع انهيار نظام الأسد وسقوطه استدعاء ما كنت شاهدا عليه بوصفي صحفيا مصريا عن سوريا. وأكتفى لاعتبارات مساحة المقال بالإشارة إلى ست وقائع/ شهادات:
نشر عسير
بمجلة حقوق الإنسان
1 ـ كان في قيادة حركة ومنظمات حقوق الإنسان الأم الوليدة عربيا ومصريا في منتصف الثمانينيات أو قبلها بقليل، التي التحقت بها مبكرا، يساريون وقوميون عرب وناصريون، إلى جانب الليبراليين.
واقترحت على الكاتب الصحفي الراحل مصطفى طيبة مسؤول تحرير مجلة المنظمة العربية لحقوق الإنسان أو دوريتها المطبوعة مقالا عن حرب المخيمات الفلسطينية بلبنان 1985، التي تورطت فيها القوات السورية وارتكبت هي وحلفاؤها بحركة أمل وغيرها مذابح، وانتهكت حقوق الإنسان، لإحكام سيطرتها على بيروت الغربية، واستكمال طرد فصائل المقاومة الفلسطينية الرئيسة بعد إخراج معظمها عام 1982 على أيدي الغزاة الإسرائيليين. وهو ما أعاد إلى الذاكرة مجزرة تل الزعتر 1976 للقوات السورية المتحالفة مع اليمين الفاشي اللبناني.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالشرق الأوسط.. هل يتغير كما تعهد نتنياهو بعد الطوفان؟!
ترامب وعصر الترحيل للفارين من الطغاة والحروب!
هل أمريكا قوية.. أرجوك فكر بعمق قبل أن تجيب!
تم نشر المقال، لكن بصعوبة، وأثار مشكلات مع آباء الحركة الحقوقية العربية الذين اعتبروا أن في نشره حرجا؛ لأنه يصم ما يعتبرونه “نظاما تقدميا قوميا عربيا” بفظاعات تماثل ما ارتكبه جيش الصهاينة ومليشيا الكتائب اللبنانية بمخيمي صابرا وشاتيلا في سبتمبر/أيلول 1982.
منع تقرير قبل
دوران مطبعة الأهرام
2 ـ زرت بيروت مع وفد لنقابة الصحفيين المصريين بعيد تحرير المقاومة/ حزب الله جنوب لبنان في 25 مايو/أيار 2000، والتقيت شخصيات سياسية مطلعة من مختلف الاتجاهات والانتماءات، منفردا، وبصحبة الصديق الراحل الكاتب الصحفي عبد العال الباقوري.
وما إن عدنا إلى القاهرة حتى رحل الرئيس حافظ الأسد (10 يونيو/حزيران 2000)، فدفعت للنشر بالأهرام بتقرير تحت عنوان “لبنان عشية رحيل الأسد”. ونقلت ما شاهدت ولاحظت وما يدور علنا وهمسا عن ضيق متزايد بين اللبنانيين بقوات النظام السوري ومخابراته، مع ما كان تحت السطح عن قرب مرحلة حاسمة لإجلائها عن لبنان.
وقبل دوران المطبعة بالطبعة الأولى، استدعاني الكاتب الصحفي الراحل سلامة أحمد سلامة إلى مكتبه، وأبلغني آسفا مستاء برفع النص ومنع النشر. وتفضل بالثناء على احترافية التقرير وموضوعيته وتنوع وتوازن مصادره، وفوق كل هذا أعطاني بروفة الصفحة المعدة للنشر كي أحتفظ بها للذكرى، وإلى الآن.
شاعر مصري
في ضيافة المخابرات السورية
3 ـ في خريف 2000، زرت دمشق للمرة الأولى ضمن وفد لمنظمة التضامن الأفروآسيوي، ومقرها القاهرة، في طريقه عبر الحدود السورية العراقية إلى إقليم كردستان العراقي للاحتفال بمئوية الشاعر الجواهري رمز الإخاء العربي الكردي.
وقدمت سلطات حكم البعث العربي السوري كل التسهيلات للوفد كي يعبر ويعود من منطقة الحظر الجوي الأمريكي خارج سيطرة سلطة نظيرها وغريمها حكم البعث العربي العراقي.
لكن الشاعر والصحفي المترجم الراحل رفعت سلام المصري زميلنا جرى استدعاؤه، قبل مغادرة دمشق تجاه معبر “فيش خابور”، إلى مقر للمخابرات بوسط دمشق، وجرى تغييبه، وانقطعت أخباره عنا ما يزيد على 24 ساعة.
وأصبح وفد التضامن والصحفيون المرافقون في أزمة، بين من يجرى اتصالات بقيادات سورية، ومن يقترح العودة كل إلى بلده، ومن يريد ألا نتحرك من الفندق حتى يعود زميلنا إلينا.
ما حدث أن الشاعر عاد في مظهر غير شاعري، زائغ البصر، منهكا جراء استجوابات الليل الطويل وبعض “كرم الاحتجاز” المعروف عن مخابرات النظام السوري حتى مع غير مواطني البلد. وأبلغنا أن محتجزيه قالوا عند إطلاق سراحه “بسيطة.. المسألة تشابه اسماء”، مع نصح بأن الموضوع منته وكأنه لم يحدث. وأظن أن أيا منا لم يتحدث عما جرى حتى بعد عودتنا إلى القاهرة.
جريمة بمحطة الحجاز
ورأسمالية محاسيب قاسيون
4 ـ في الزيارة ذاتها، قادني شغف بالتاريخ وفضول صحفي إلى محطة الحجاز بدمشق، حيث كان ينطلق خط الشرق للسكك الحديدية، ويمر بفلسطين قبل النكبة 1948.
ولما منيت النفس برؤية تحفة معمارية تاريخية، صدمني اختفاء نقوش جدران باحة المحطة الداخلية التي أبدعها أمهر الفنانين الحرفيين خشبا وجصا في زمانهم تحت طلاء زيت فج الألوان لثلاث صور عملاقة لحافظ الأسد وابنيه باسل وبشار، تنتهي بأحذيتهم.
5 ـ زرت دمشق مرة أخرى قادما بطريق البر (المصنع) من بيروت بعد قليل من حرب 2006. ولفت سوريون انتباهي وشاهدت بنفسي كيف تنمو بتوحش فوق جبل قاسيون القصور والملاهي الفخمة لرأسمالية المحاسيب لجنرالات رجال أعمال ورجال أعمال مقربين للأسد يقتسم معهم أهله وحاشيته وجنرالاته الأرباح وعوائد توكيلات الشركات العالمية، في حين كانت علامات الفقر والتشرد جلية في شوارع العاصمة. ولعله فاتني أن أنتبه حينها للعلاقة بين انهيار العملة السورية عام 2000 وهذا وذاك معا.
وفي 2009 طالعت بنشرة “الشرق الأوسط” البحثية لجامعة أوكسفورد بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول تقريرا بعنوان “رأسمالية المحاسيب تنتشر بقوة”، وهو يكشف تحديدا عن تطور لافت لها وفسادها بسوريا ومصر وتونس، وتزايد نفوذ كبار المحتكرين على اقتصاد هذه البلدان.
أحلال لنا
حرام على السوريين؟
6 ـ مع خلع مبارك في فبراير/شباط 2011 تضمنت مداخلاتي ردا على اتصالات قنوات فضائية مقرها دمشق وبيروت حليفة لنظام الأسد وقناة العالم الإيرانية الإشارة إلى كون الديمقراطية وتداول السلطة سلميا وإنهاء حكم الفرد وعائلته والتوريث حق أيضا للسوريين وغيرهم، مثل المصريين والتونسيين، فلم يعد أي منها للاتصال مرة أخرى والحمد لله.
وإلى اليوم يظل من غير المنطقي أو الأخلاقي أن تعارض في بلدك كل هذا وتقبل بأن يعاني منه شعب آخر.
لو أنصفوا لطالبوا
برحيل بشار
خلال العمل بأقسام الشؤون الخارجية والعربية والثقافة، التقيت بمفكرين ومثقفين وفنانين وساسة وحقوقيين سوريين، وقرأت لهم على مدى نحو أربعين عاما، وتابعت مبادراتهم للإصلاح فردية وجماعية، بما في ذلك “ربيع دمشق” 2000/2001.
وكان في هذه المبادرات الحريصة على الوطن ووحدة الدولة، لو استجاب نظام الأسد لواحدة منها، ما يكفل على نحو سلمي إنقاذ سوريا من الطائفية والتقسيم والضعف والاحتلالات الخمسة إسرائيليا وأمريكيا وروسيا وإيرانيا وتركيا في نهاية عهده، ووضع البلد على طريق الدولة المدنية الموحدة، دولة قانون ومواطنين أحرار، تعمل لتحرير الجولان وخدمة قضية فلسطين بحق وفاعلية.
لكن انتهى معظم أصحاب هذه المبادرات -وهم من خيرة أبناء الشعب السوري تعليما وثقافة ووطنية ونزاهة- مقتولا أو معتقلا ومسجونا معذبا أو مهجرا.
ولو أنصف وتعقل المدافعون عن بقاء بشار حتى آخر نقطة دم وصرخة عذاب لأبناء الشعب السوري المتباكون على انهيار نظامه، بادعاءات “العروبة” و”التقدمية” و”الممانعة”، لانضموا إلى دعوات رحيله “من زمان”.
حقيقة لا أفهم كيف يتشدق من اكتوى بجرائم أشباه هذا النظام معارضا في وطنه بالحرص على الأسد/ الدولة/ سوريا، وخشية بديل يظنونه أسوأ؟ ويتجاهل أن استمراره هو السبب الأول في تقدم هذا البديل، وسد السبل أمام غيره.
*
لا يفوتني في النهاية الاعتراف بأن العبد لله من محبي الحلويات الشامية، والكنافة بالفستق الحلبي، لكن خارج العلب الفاخرة المبرومة بدماء ولحم وعظام الشعب السوري، وبخاصة في حقائب الإخوة العائدين من قصور الأسد وموائده العامرة، بينما يتضور غالبية الناس هناك وعندنا جوعا، ويرتجفون بردا وخوفا ومذلة.