من تحرير سوريا.. إلى بيع عبد الناصر!

الرئيس جمال عبد الناصر وساعته التي تثير جدلا واسعا هذه الأيام (منصات التواصل)

لولا الزحف السريع للفصائل السورية المُسلّحة نحو العاصمة دمشق، والسقوط المذهل للقرى والمدن والمحافظات في قبضتها وهي في طريقها نحو العاصمة والسيطرة عليها فجر الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري في تطورات دراماتيكية رهيبة، وطيّ صفحة نظام دكتاتوري دموي يحكم سوريا منذ 54 عاما من الأسد الأب إلى الأسد الابن الذي ورث السلطة بتهديد السلاح، ونشر الرعب بين السوريين..

لولا هذا الحدث الجلل والضخم والهائل والتاريخي، لحاز حدث بيع ساعة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في صالة مزادات “سوذبيز” في أمريكا اهتمامًا أكبر مما حصل عليه يوم الجمعة الماضي حيث تم بيعها بـ840 ألف دولار أمريكي.

كتبت هنا الأسبوع الماضي عن تطورات سوريا التي كانت مفاجئة للجمهور العربي والعالمي، بل لكثير من العواصم، وكنت أشير إلى تقدم المعارضة المسلحة التي بدأت عمليتها العسكرية الجريئة “ردع العدوان” في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فقد اندفعت بقوة لانتزاع مناطق سيطرة النظام بشكل مدهش؛ مما يعني أن النظام كان أضعف من المتصور، وأن الجيش يفتقد الحماس للقتال في معركة أدرك أنه يضحي فيها لصالح شخص الحاكم الساقط حتمًا وعائلته الضيقة فقط، بجانب تخلي رعاته وحماته الخارجيين عنه.

الحدث السوري الضخم بأكثر مما نراه على الشاشات، والتحركات بسرعة الضوء لمقاتلي المعارضة، والسقوط المهين للنظام، أمر يحمل في جانب منه لغزًا كبيرًا ستكشف عنه الأيام.

إن ما حدث في نوفمبر وديسمبر 2024 من اندحار للنظام الفاشي هو ما كان يجب أن يحدث في 2015 لولا المساندة العسكرية المباشرة له من روسيا وإيران وعشرات المليشيات الطائفية، في حين تعثرت قوى المعارضة وتراجع الدعم عنها، ودبّت الخلافات في صفوفها، كما أن ظهور تنظيمات إرهابية مثل داعش أضرّ بها، وجعل المساندين لها يأخذون خطوات إلى الوراء، ويجمدون علاقاتهم معهم.

ثم إن استعادة المعارضة لتنظيم صفوفها وضبط خططها وتمتين قوتها وذكاء تحركاتها نهاية 2024 جعلتها تحسم الجولة الأخيرة في صراع مرير وحرب طويلة، ولعل سوريا تفتح بعدها صفحة جديدة من الحريات والديمقراطية المدنية من دون استبداد وفساد وقمع وانتهاكات واعتقالات ودماء ومظالم.

حفيد عبد الناصر والساعة الذهبية

نعود إلى بيع ساعة عبد الناصر، والبائع هو جمال خالد جمال عبد الناصر، وهو حفيد عبد الناصر من نجله الأكبر خالد الذي توفي في 15 سبتمبر/أيلول 2011.

والبيع هنا ليس لعبد الناصر الإنسان، فهو زعيم دخل التاريخ بما له وما عليه، وهو عند ربه منذ 54 عاما، لكن البيع رمزي ممثلًا في ساعة فاخرة ثمينة كانت بحوزته، وظهرت في يديه في مناسبات رسمية.

قصة الساعة الذهبية نشرتها الصحف والمواقع الإخبارية، وقد أهداها إليه الرئيس الراحل السادات عام 1963 قبل أن يخلفه في الرئاسة بعد رحيله في 28 سبتمبر 1970.

الشركة السويسرية المُصّنعة للساعة المميزة وصفتها بأنها “الساعة الرئاسية”، إذ كان يقتنيها رؤساء وقادة الدول وكبار الشخصيات، وهي أول روليكس تعرض اليوم والتاريخ في “مينا” الساعة، ومن شاهد صورتها سيجد فيها التاريخ واليوم باللغة العربية، ولهذا تُسمى، أي ساعة روليكس التي تعرض اليوم والتاريخ (Rolex Day-Date).

اللافت فيها ذلك النقش في جهتها الخلفية لاسم: السيد أنور السادات، وأسفله هذا التاريخ: (26 /9/ 1963)، والأغلب أنه هو تاريخ اقتناء الساعة، وهي من إنتاج نفس العام 1963، وهذا النوع من روليكس بدأ تصنيعه عام 1956.

وقد أعلنت دار سوذبيز أن سعر فتح المزاد يتراوح بين 30 و60 ألف دولار، وقد بلغ سعر بيعها 700 ألف دولار، وبعد إضافة الضريبة يصل سعرها إلى 840 ألف دولار، أي نحو 42 مليون جنيه.

تقديري أن نقش اسم السادات يعني أنه إما أن يكون قد اشتراها لنفسه، وإما أنها مُهداة له، وقد يكون أهداها لعبد الناصر مجاملة، أو لتعميق علاقة الود مع الرجل القوي في النظام، أو لأي سبب آخر. والسادات كان يتقرب من عبد الناصر، ولا يريد أن يكون مآله الابتعاد عن دائرة السلطة كما ظل يحدث تدريجيًّا مع أعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو 1952 واحدًا بعد آخر.

وربما يكون الأمر حيلة من عبد الناصر بأن أوعز للسادات بشراء الساعة نيابة عنه، ونقش اسمه هو عليها، ثم يهديها له حتى لا تشوش ساعة مستوردة غالية الثمن، إلى حد ما، على صورة التقشف والزهد التي رسمها عبد الناصر لنفسه.

لماذا البيع وليس العرض بالمتحف؟

أما الحفيد جمال عبد الناصر فقد وصلت إليه الساعة من والده خالد قبل وفاته، وكانت السيدة تحية قد أعطتها لابنها خالد بعد رحيل زوجها عبد الناصر، وجمال الحفيد عمره 44 عاما، وهو خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقد استمعت إليه في لقاءات عديدة حيث يبدو حديثه عامًّا بلا عمق.

والسؤال: لماذا يبيع ساعة جده الشخصية العالمية في مزاد حتى لو كانت إرثًا خاصًّا؟

كان الأولى أن يقدمها لمتحف مقتنيات عبد الناصر، المُقام في البيت الذي كان يعيش فيه مع عائلته، لتُعرض فيه.

بيع أحد مقتنيات عبد الناصر مُستهجن، وتصرف ليس في صالح الحفيد، ولا العائلة، ولا ندري هل وافقت على البيع؟ وإذا كان العكس، فلماذا لم تمنع هذه الغلطة الكبرى؟

هل جمال الصغير بحاجة إلى المال؟ وإذا كان مُعسرًا فهل الحل هو بيع ساعة اكتسبت قيمتها ورمزيتها من كونها ساعة الرئيس والزعيم وقائد الثورة التي غيرت وجه الحياة في مصر وامتد أثرها إلى خارج مصر.

مشتري الساعة غير معروف إلى الآن، وقد يكون عربيًّا محبًّا لعبد الناصر أكثر من حفيده البائع لساعته.

مبارك تحرير سوريا وحرية شعبها الذي عانى كثيرًا في ظل نظام دكتاتوري قاسٍ، هذا الشعب قدم تضحيات هائلة في ثورته، وخلال الحرب، أكثر مما حدث في كل بلدان الربيع العربي.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان