الثورة السورية من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

اجتماع الحكومة السورية الجديدة برئاسة محمد البشير (الفرنسية نقلا عن وكالة الأنباء السورية)

الثورة السورية هي أطول وأصعب ثورة حتى الآن في تاريخ الثورات بغض النظر عن نتائجها قياسا بالثورات العالمية الأخرى، هي الأطول لأنها استمرت 14 عاما بين تظاهر واعتصام سلمي واشتباكات مسلحة، بينما استمرت الثورة الفرنسية 10 سنوات (1789-1799)، أما الثورة الإيرانية فقد استمرت 13 شهرا من يناير/كانون الثاني 1978 حتى فبراير/شباط 1979، واستغرقت الثورة الشيوعية الروسية عشرة أشهر من يناير حتى أكتوبر/تشرين الأول 2017.

قدمت الثورة السورية تضحيات كبرى من البشر والحجر قياسا بغيرها من الثورات أيضا (ما بين 350 و400 ألف شهيد)، فضلا عن 6.9 ملايين نازح داخل سوريا، و5.5 ملايين لاجئ فروا إلى دول الجوار وأوروبا حسب تقديرات منظمات الأمم المتحدة، ومع ذلك يمكن القول إن الثورة السورية وبعد تمكنها من إطاحة حكم آل الأسد فإنها قطعت نصف الطريق، وانتقلت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (النصف الثاني من الطريق)، وهو تضميد الجروح، وبناء الدولة الجديدة، واستنهاض المجتمع بكل فئاته وأطيافه، وإشراكه في عمليات التنمية الشاملة بما يحقق تطلعات الشعب، ومواجهة المؤامرات الإقليمية والدولية التي تستهدف وأدها في مهدها، فإذا نجحت في ذلك تكون الثورة.

من ضمن هذا الجهاد الأكبر الذي بدأ في اليوم الأول لوصول قيادة الثورة إلى العاصمة دمشق، هناك أولويات عاجلة، وأخرى آجلة، وحسنا أن القيادة الجديدة تدرك هذه الأولويات بشكل جيد، ولا تستجيب لمحاولات استفزاز البعض لها لدفعها للاشتباك مع قضايا آجلة لم يحن وقتها بعد.

تبييض السجون وعودة المهاجرين

يمكننا رصد أهم الأولويات العاجلة ومنها تبييض السجون تماما، والبحث عن المختفين، حيث يتم اكتشاف المزيد من السجون السرية يوما بعد يوم، ويتبع ذلك تأهيل السجناء المحررين، وهذه مهمة المجتمع المدني، والأهالي في الوقت الحالي.

من الأولويات العاجلة أيضا تيسير عودة النازحين داخل الوطن إلى مدنهم وقراهم الأصلية، وكذا تيسير عودة المهجرين خارج سوريا، حيث تقوم السلطة الجديدة بتهيئة مطاري دمشق وحلب لاستقبال المهاجرين، فضلا عن استقبال الكتلة الكبرى من المهاجرين في تركيا عبر الحدود البرية. بالتأكيد سيحتاج هؤلاء العائدون إلى فرص عمل، ودعم مادي ومعنوي لاستئناف حياتهم وهذه مهمة تحتاج تعاونا من الهيئات الأهلية مع الحكومة.

من الغريب أن القيادة الجديدة لم تعطل دستور الأسد، ولم تعلن دستورا مؤقتا لتسيير العمل خلال الفترة الانتقالية (إعلان دستوري)، فهذا هو الإجراء الطبيعي بعد أي ثورة أو تغيير كبير، والمفترض أن المعارضة السورية سواء في شقها السياسي (الائتلاف السوري) أو العسكري (الفصائل) لديها مسودة جاهزة سلفا لهذا الإعلان الدستوري.

الأمن والخدمات

ضبط الحالة الأمنية ومواجهة الانفلات، من أوجب الواجبات، وقد نجحت القيادة الجديدة بنسبة كبيرة في هذا المجال حتى الآن (وقعت بعض العمليات، لكنها لا تمثل ظاهرة كما حدث في ثورات أخرى رغم ضخامة الجروح النفسية والثارات على مدى 14 عاما). لقد كان للخطاب السياسي الرشيد للقائد الجديد أحمد الشرع دور كبير في تهدئة حالة الغضب والانتقام، وظلت المشكلة مع المجرمين التقليديين الذين يستغلون مثل هذه الأجواء للسرقة والنهب.

تشكيل الحكومة الانتقالية خطوة مهمة على طريق فرض الاستقرار، وحفظ الأمن ومواجهة الانفلات، وتوفير الخدمات المعيشية العاجلة، وجاء اختيار رئيس الحكومة الجديدة المهندس محمد البشير الذي يمتلك خبرات إدارية سابقة لكونه أدار حكومة الإنقاذ في المناطق المحررة، خطوة مهمة في طريق تشكيل منظومة الحكم الجديدة، كما أنه قدم رسالة إيجابية للعالم، وسيكون أمام هذه الحكومة المؤقتة إضافة إلى توفير السلع والخدمات الأساسية وضبط الأمن الداخلي، الحفاظ على وثائق الدولة ومنع تهريبها، ومنع تهريب الأموال، وتأمين الحدود.

ترتيب قيادة الجيش والشرطة

تحتاج سوريا بشكل عاجل إلى ترتيب وضع قيادة القوات المسلحة، والشرطة ودمج كل الفصائل المسلحة في الجيش، حتى لا تشكل هذه الفصائل مراكز قوى مزعجة كما هو الحال في ليبيا، وحسنا أن الاتجاه العام حتى الآن هو عدم تفكيك الجيش كما حدث في الجيش العراقي، والعفو عن المجندين الإلزاميين، مع الاحتفاظ بضرورة محاسبة كبار الجنرالات المجرمين، فسوريا في وضع لا يسمح لها بذلك الآن مع تربص أعدائها المجاورين، وخاصة العدو الصهيوني الذي كثف من عملياته مستغلا هذا الفراغ العسكري، ويمكن على مدى زمني متوسط إجراء الإصلاحات المطلوبة في الجيش، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، حتى لا تتحول إلى قوة مضادة.

ومع إعلان إدارة العمليات العسكرية -التي ينبغي تغيير اسمها إلى مجلس قيادة الثورة بعد ضم قادة سياسيين آخرين- عن محاسبة وملاحقة المسؤولين المتورطين في “تعذيب السوريين ونشر قائمة بأسمائهم”، وتقديم مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن كبار ضباط الجيش والأمن المتورطين في جرائم حرب وتعذيب، تكون القيادة الجديدة قد أوضحت الحدود بين هذا الحزم وبين حالة التسامح اتجاه من لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين.

من المراهقة والمزايدة السياسية دفعُ النظام الجديد إلى الدخول بشكل عاجل في مواجهة غير متكافئة مع الكيان الصهيوني الذي احتل جبل الشيخ، وكثف غاراته على الأراضي السورية، فهذه الغارات لم تتوقف طوال حكم الأسد، وفي ظل وجود جيش منظم ومسلح، والرضوخ لمزايدات أنصار بشار في المنطقة يعني خوض معركة خاسرة نتيجتها ربما تكون احتلال دمشق نفسها. ينبغي أن تكون قضية تحرير الجولان من القضايا الأساسية حين يتحقق الاستقرار للحكم الجديد، وحين يعيد ترتيب قواته المسلحة، وعلاقاته الدولية، لكن هذا ليس مبررا للصمت المطبق من القيادة الجديدة اتجاه هذا العدوان الإسرائيلي.

أولويات آجلة

وإذا كانت الثورة بحاجة عاجلة إلى إعلان دستوري مؤقت، فإن الحوار حول الدستور الدائم ليس من الأولويات العاجلة الآن، فالدستور سيرسم شكل الدولة الجديدة وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ووضع الأقليات ودورها السياسي، وهوية الدولة، وشكل نظام الحكم، وطريقة تداول السلطة والانتخابات التنافسية، وكل هذه القضايا ليست ذات أولوية في الوقت الحاضر، بل إن إثارتها كفيلة بتفجير الأوضاع، كما أن البحث عن حلول لأزمة الديون، أو تغيير المناهج الدراسية، أو إجراء تعديلات تشريعية ليست من الأولويات العاجلة بل تحتاج إلى نقاشات بعد استتباب الأوضاع.

تستطيع سوريا الجديدة أن تقدم نموذجا رائدا للتحرر والاستقلال، وللتنمية السياسية والاقتصادية، وللتنوع الثقافي بحكم تعدد طوائفها وعرقياتها، ولكنها بحاجة إلى مساعدة الدول العربية والإسلامية، بل والمجتمع الدولي عموما، حتى تحقق تطلعات الشعب الذي دفع ثمنا باهظا في طريق التحرر من دولة القهر والفقر والاستبداد.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان