سقوط “زعيم الشبيحة”.. هل من متعظ؟

سوريون في دمشق يحتفلون بسقوط الطاغية (الأناضول)

في بضعة أيامٍ أُسدل الستار على نظام الأسد أبًا وابنًا.

أكثر من 50 عامًا من حكمهما بالقبضة الحديدية، وسجونهما المرعبة تحت وفوق الأرض، غدت عصفًا مأكولًا، في قفزة تاريخية خاطفة.

يغدو التاريخ أحيانًا كالحصان الجامح؛ لا يبالي بالذين يسقطون من فوق ظهره، حين يقفز قفزاته الهائلة.

بعد فرار بشار إلى روسيا، ذهب كثيرون إلى أن سقوط النظام السوري تأخر 13 عامًا، لكن الحقيقة أنه تأخر لأزيد من أربعين عامًا، وتحديدًا حين ارتكبت قوات الأسد الأب، مجزرة حماة في فبراير/شباط 1982، إذ قصفت المدينة عشوائيًّا مدة 27 يومًا؛ مما أسفر -وفقًا لروايات متضاربة- عن استشهاد نحو 40 ألف سوري، واختفاء 17 ألفًا آخرين.

من هؤلاء المختفين صُعقنا بالذين كانوا في سراديب مظلمة تحت الأرض، كالطيار البطل رغد الططري؛ الذي رفض الانصياع لأوامر قصف بني وطنه، فكان جزاؤه السجن، ولم يتنسم الحرية طوال هذه السنين، إلا بهروب وريث أبيه.

متى تسقط الأنظمة؟

حين يقتل النظام شعبه فإنه يسقط، ومهما بقي على سدة الحكم، محاطًا بمظاهر الأبهة، يمشي على السجاجيد الحمراء، ويستقبله القادة هنا وهناك، ويتودد له المنافقون، ويطبل له الإعلام، فإن ذلك لا ينفي أن العد التنازلي لنهايته قد بدأ.

هكذا لم يكن غريبًا أن ينهار الأسد الابن سريعًا؛ لقد أكل السوس منسأته، مع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار عام 2011، إذ استن بسنة أبيه في مجزرة حماة، فقتل الشعب السوري عشوائيًّا بالبراميل المتفجرة وبغيرها، مستندًا إلى أن أنظمة في الإقليم مثل إيران، وخارج الإقليم مثل روسيا، تمده بالعتاد لشن حربه على السوريين.

أغلب الظن أن الهارب كان يدرك في صميم نفسه، أن نهايته محتومة منذ أوغل في سفك الدماء، فلم يضيِّع وقتًا فحزم حقائبه، ليولي الأدبار إلى موسكو التي منحته لجوء  إنسانيًّا.

الدكتاتور الذي تهكم مستخدمو شبكات التواصل على انتصاب تماثيله وانتشار صوره في ربوع سوريا الحبيبة، قائلين إنه جعل البلاد كلها “صفحة إنستغرام” خاصة به، سيقضي ما بقي من عمره وضيعًا، وسيُخلَّد بعد موته هيّنًا مثل “بصقة” على قارعة طريق، تدوسها أحذية التاريخ.

قد يحظى في العاصمة الروسية، بأفخر أصناف الطعام والشراب، وقد ينام على أسرة وثيرة في غرف فاخرة، وليست منحطة الذوق فوضوية التصميم والألوان، كغرف قصره التي شاعت صورها بعد اقتحامها من قبل المقهورين، لكنه لن يجرؤ أبدًا حتى على أن يطل برأسه من الشباك، بل إنه لن يُسمح له بذلك.

صرخات ضحاياه ستلاحقه في كوابيسه، فتزلزل قلبه وروحه، والاعتبارات الدبلوماسية سترغمه على التواري إلى الأبد.

تلك شروط اللجوء الإنساني لأمثاله من المخلوعين؛ لك أن تأكل وتشرب وسنقدم لك العلاج إذا مرضت.. ليس أكثر من ذلك.

ما الفرق بين حياة كهذه وحياة حيوان أليف يقتنيه ثري ما؟

ظروف الحيوان أفضل حالًا؛ سيربت صاحبه على رأسه من حين لآخر، وقد يصحبه إلى جولة بحديقة ما، أما الأسد فسيوضع للأبد في قفص موصد، حتى وإن كان من ذهب.

الذين يشعرون بالغضب لعدم الإيقاع ببشار، حتى يقتص منه العباد والبلاد، عليهم أن ينظروا إلى هذه الصورة.

كل ثانية ستمر على الساقط الهارب، هي جحيم سيصلى ناره.

لقد أصبح نسيًا منسيًّا، لا سجاجيد حمراء، ولا قصور منيفة، ولا طائرات رئاسية، ولا صوره ترفع في الميادين، ولا أخباره تتصدر نشرات الأخبار، ولا “شبيحة” ومليشيات تحميه، وتجبر معارضيه على أن يخروا ساجدين لصورته، كما شاهد العالم بأسره في بدايات الثورة السورية.

تلك عظة.. فهل من متعظ؟

عقاب بالتقسيط، ممتد زمنيًّا كاللعنة الأبدية في أسطورة بروميثيوس الإغريقية، ولا مبالغة في أن الموت كان سيكون أكثر رحمة وأقل إيلامًا.

وتلك عظة، أو ينبغي أن تكون كذلك، لقاطني قصور الحكم في عالمنا العربي البائس، ممن يحسبون أن أحدًا لن يقدر عليهم.

مع اندلاع الثورة التونسية، قال مبارك وسدنته، إن مصر ليست تونس، وقال القذافي وعبد الله صالح وبشار الأسد كذلك، وظن الملأ من هؤلاء الساقطين أنهم بمأمن من غضبة الناس.

وما هي إلا أيام حتى كان مبارك يتداعى، وحدث ما حدث للقذافي، وشبت النيران في جسد صالح، ثم ها هو بشار يصيبه الدور، وإن تأخر مشهد النهاية أكثر مما كان متوقعًا.

وحتى يحتفظ بسلطاته التي كادت تقتصر على دمشق، أجزل الهارب العطاء لحلفائه وانتهب خصومه من البلاد التي خارت قواها ما يشاؤون.

توزَّعت سوريا “شرائحَ مقطَّعة”؛ هنا نفوذ إيراني، وهنالك تركي، وهذه قاعدة روسية، وتلك أمريكية، فضلًا عن الاحتلال الإسرائيلي للجولان، الذي لم يصوِّب النظام نحوه رصاصة، مكتفيًا بمقولة الأب والابن اللزجة: “نحتفظ بحق الرد المناسب في الوقت المناسب”.

وكما هو معلوم لم يأت ذاك الرد ولم يتسنَّ ذلك الوقت -ولو مرة واحدة- منذ حرب السادس من أكتوبر عام 1973.

كان أسدًا على شعبه، وأمام العدو نعامةً، وكان للمفارقة يتشدق بأنه حجر زاوية “محور المقاومة”!

راهن على الدعم الخارجي، لكن في العلاقات الدولية لا شيكات على بياض، والسياسة لا تعترف بالاستاتيكية، ومن ثم لا أصدقاء دائمين ولا حلفاء على طول الخط، ومن السهل على اللاعبين على الطاولة أن “يحرقوا ورقة” مقابل ورقة أخرى.

هذا ما حدث؛ روسيا رفعت يديها، وأعلنت صراحةً أنها لا تملك خطة لإنقاذه، وقالت طهران إن الله وحده يعرف مصيره، أما الشبيحة والمليشيات فقد تبددت، ثم انسحبت قوات الجيش.

سقط زعيم الشبيحة، لأن عرشه كان على الدماء، والدماء ذات قوام سائل لا توفر استقرارًا ولا تؤسس لنظام سياسي مؤهل للبقاء.

كان الإعلام السوري قبيل سقوط الأسد بدقائق، يردد “سوريا الأسد” ويضيف لاعتبارات السجع: “وإلى الأبد”، ثم احتفى الإعلام ذاته بنجاح الثورة الشعبية المجيدة.

إزاء المشهد الدراماتيكي، تعنّ المقارنة بحالتي الانقلاب الفاشلتين على أردوغان في تركيا، وشافيز في فنزويلا، إذ انتفض شعبا البلدين لرفض الإطاحة بهما، حين تربص بهما المتربصون.

في البدء تكون الكلمة للشعب، وفي النهاية تكون، وليس للدعم الخارجي، أو القمع الوحشي.

سقوط “زعيم الشبيحة” صفحة دامية من التاريخ العربي، الذي تتكرر حلقاته بغض النظر عن الزمان والمكان، دون أن يستوعب القامعون الدروس، فلا يُدركون إلا بعد فوات الأوان، أن لا عاصم لهم من نيران غضب الشعب التي كانت تتأجج تحت رماد القهر.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان