الاقتصاد السوري.. عجز تجاري سلعي وخدمي مزمن
حقق ميزان المدفوعات السوري عجزا مستمرا في السنوات التالية لنشوب الحرب الأهلية هناك منذ عام 2011 وحتي الآن، انعكس علي تآكل الاحتياطيات من النقد الأجنبي حتي أصبحت لا تكاد تكفي قيمة واردات سلعية لشهر واحد، رغم ما يصلها من تحويلات من العمالة السورية بالخارج ومعونات أجنبية .
ويمثل ميزان المدفوعات لأية دولة مقياسا لمدي التوازن ما بين الموارد من النقد الأجنبي التي تتحصل عليها من دول العالم، وما بين دفوعاتها من النقد الأجنبي لها، والذي يتم تقسيمه لموازين فرعية أبرزها: الميزان التجاري السلعي والميزان التجاري الخدمي، وميزان الدخل من الفوائد وميزان المعونات والتحويلات، والحساب المالي والرأسمالي الذي يتضمن الاستثمار بأنواعه والقروض والودائع.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsحتى لا ينتصر دعاة الهزيمة
ينابيع الحكمة تتدفق من غزة
تونس في عين اللامبالاة
وبالحالة السورية كان الميزان التجاري هو الأكبر من حيث القيمة والأكثر تأثيرا بميزان المدفوعات، وبرصد تطور الميزان التجاري الذي يقيس الفرق بين قيمة الصادرات السلعية والواردات السلعية، من عام 2001 وحتى عام 2020 حسب البيانات المتاحة من قبل مصرف سوريا المركزي، فقد كانت قيمة الصادرات تفوق قيمة الواردات منذ عام 2001 – وهو العام التالي لتولي الرئيس بشار الأسد – وحتى عام 2004 وكذلك عام 2006، وبعدها طغت الواردات على الصادرات لتسبب عجزا تجاريا استمر حتى العام الماضي حسب بيانات منظمة التجارة العالمية.
الليالي السياحية أقل من عدد السياح
إلا أن اللافت هو زيادة حدة هذا العجز التجاري، والتي عبر عنها مؤشر نسبة الصادرات الي الواردات، فبعد أن كانت نسبة التغطية للواردات 96 % عام 2007، ظلت تلك النسبة تتناقص تدريجيا بمرور السنين حتى بلغت 77 % عام 2010، وزادت أحداث الحرب الأهلية التي بدأت عام 2011، من حدة تراجع نسبة تغطية الصادرات للواردات من 58 % عام 2011 الي 13% عام 2014، ثم عادت النسبة للتحسن تدريجيا حتى بلغت 44 % عام 2020.
وللمقارنة بين حال التجارة الخارجية السلعية لما قبل الحرب الأهلية وما بعدها، نجد أن قيمة الصادرات عام 2010 بلغت 12.3 مليار دولار، لتحتل المركز 78 بين دول العالم بالصادرات، وهي القيمة التي تراجعت بالسنوات التالية حتى بلغت 1.1 مليار دولار وفي عام 2014، عادت للتحسن الجزئي حتى بلغت 5.47 مليارات دولار بالعام الماضي لتحتل المركز 119 بين دول العالم.
وبالانتقال للتجارة الخدمية المعنية بالسياحة وخدمات النقل والاتصالات والتشييد والخدمات المالية والترفيهية وغيرها، نجد ميزان الخدمات السوري ظل يحقق فائضا منذ عام 2005 وحتى 2010 العام السابق للحرب الأهلية، وبعدها دخل بالعجز حتى عام 2020 حسب بيانات مصرف سوريا المركزي، حيث انقطعت منظمة التجارة العالمية عن نشر بيانات التجارة الخدمية السورية منذ عام 2012 وحتى الآن.
وتشير البيانات السورية لبلوغ عدد السياح القادمين لسوريا عام 2020 نحو 479 ألف شخص قضوا 339 ألف ليلية سياحية، وحتى لا يتعجب أحد من كون عدد الليالي السياحية أقل من عدد السياح القادمين، فإن هذا يعود لقيام الكثير من الواصلين من الأردن ولبنان بالعودة بنفس اليوم دون المبيت، وتضمن التوزيع النسبي للسياح الواصلين مجيء 82 % منهم من البلدان العربية المجاورة، بالإضافة الي 2 % من باقي البلدان العربية، الي جانب 11 % من بلدان أوربية و2 % من بلدان آسيوية و3 % من باقي بلدان العالم.
زيادة تحويلات العمالة بعد الحرب
وكانت إيرادات السياحة قد بلغت 6.2 مليارات دولار عام 2010، ثم تراجعت بشدة بسنوات الحرب الأهلية حتى بلغت 30 مليون دولار فقط عام 2014، ثم عادت للتحسن التدريجي حتي تخطت الثلاثمائة مليون دولار عامي 2018 و2019، لكنها عادت للتراجع الي 78 مليون دولار عام 2020 مع أزمة كورونا.
ومن أبرز موارد النقد الأجنبي لسوريا كانت تحويلات العاملين بالخارج، والتي ظلت ترتفع من 770 مليون دولار عام 2006 حتى بلغت 1.4 مليار عام 2010، لكنها زادت لتتخطي المليار ونصف المليار عامي 2011 و2012 مع ذروة العنف بين السلطة والمحتجين، سعيا من المغتربين لمساعدة ذويهم، وظلت تتخطي المليار دولار عامي 2013 و2014، ثم المليار ونصف المليار لعامين ثم تخطت الملياري دولار لعامين، ورغم انخفاضها عام 2019 فقد عادت لتخطي المليارين عام 2020 مع زيادة أعداد المغتربين نتيجة النزوح القسري.
وانعكس عجز الميزان التجاري والخدمي على ميزان المعاملات الجارية، رغم الفائض المحدود الذي ظل ميزان الدخل يحققه لسنوات وكذلك تحويلات العاملين والمعونات، والنتيجة أنه بعد أن ظل يحقق فائضا مستمرا منذ عام 2000 لمدة ثماني سنوات، فقد تحول للعجز منذ عام 2009 وحتى 2020، مع توقعنا باستمرار العجز بالسنوات التالية، بدليل استمرار كبر قيمة الدين الخارجي والتي بلغت 4.8 مليارات دولار عام 2022 حسب البنك الدولي.
ونتيجة لذلك تراجع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، والذي كان قد بلغ متوسطه 46.5 ليرة للدولار الواحد عام 2010، ثم أخذ بالتراجع التدريجي ليصل 48 ليرة عام 2011 ثم 65 ليرة عام 2012، ثم تخطي المائة ليرة بالعامين التالين وليصل الي 237 ليرة عام 2015، ثم الي 461 ليرة بالعام التالي وظل أقل من الخمسمائة ليرة حتي 2019 .
ثم جاءت أزمة كورونا عام 2020 بتداعياتها ليصل الي 870 ليرة، وبالعام التالي تخطي السعر الألف ليرة الي 1256 ليرة، وبعام 2022 بلغ 2506 ليرة ثم كانت القفزة عام 2023 الي 12 ألفا و700 ليرة، حتى أصبحنا ندور حول الخمسة عشر ألف ليرة للدولار الواحد بالعام الحالي، وذلك بسبب العجز المزمن بالتجارة السلعية والخدمية والأوضاع الأمنية المتدهورة الطاردة للاستثمار الأجنبي.
ومع زيادة الواردات السلعية والخدمية انتقل أثر ضعف العملة الوطنية إلى أسعار السلع والخدمات، مما رفع معدلات التضخم لتبلغ 120 % بأبريل / نيسان الماضي، وهو ما ما واكب تراجع الدعم الحكومي للمشتقات البترولية، مما أدي لتآكل قيمة الدخول رغم قيام السلطات برفع الأجور في صورة تعويضات.
ويظل السؤال هل تتغير الأحوال الاقتصادية مع انتهاء نظام عائلة الأسد؟ والذي استمر لنحو 54 عاما منذ تولي حافظ الأسد عام 1971، والإجابة مرتبطة بنوايا القوي الغربية التي أزاحت بشار، والتي لن تسعي لعودة سوريا كما كانت قبل عقود تحقق الاكتفاء الذاتي الزراعي بل ستفضلها معتمدة علي الاستيراد، وها هو العراق بموارده النفطية الضخمة غير المتاحة لسوريا، ما زال يستورد أغلب غذائه ولم تعد القدرات الصناعية والزراعية كما كانت بعهد صدام حسين، وما زال العديد من مناطقه يعاني انقطاع الكهرباء بعد 21 عاما من الغزو الأمريكي في 2003 .