كيف أصبحت تركيا اللاعب الأكثر فاعلية على الساحة السورية؟
عقب انهيار النظام الحاكم في سوريا وفرض فصائل المعارضة المسلحة سيطرتها على معظم مدنها، ودخولها إلى قلب العاصمة دمشق، وإعلان فرار الرئيس المخلوع بشار الأسد أصبحت تركيا هي اللاعب الأكثر فاعلية وتأثيرا على الساحة السورية، بالرغم من الوجود العسكري لكل من روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية بها.
المساندة التركية للمعارضة السورية
اقرأ أيضا
list of 4 itemsحتى لا ينتصر دعاة الهزيمة
ينابيع الحكمة تتدفق من غزة
تونس في عين اللامبالاة
لم تأت هذه المكانة التي تحظى بها تركيا في الوقت الراهن من فراغ، فعلى مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، عمر الثورة السورية، كانت الحكومة التركية هي الداعم الرئيس لمكوناتها، إذ احتضنت قياداتها المعارضة، وقدمت لها كافة أشكال الدعم العسكري واللوجستي، وشرعت أبوابها لاستقبال ملايين اللاجئين الذي فروا من ويلات الحرب التي اندلعت بين قوى المعارضة ونظام الأسد بمساندة كل من روسيا وإيران.
وأخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن الشعب السوري ومطالبه المشروعة في المحافل الدولية والإقليمية، لاستعادة حقوقه المهدرة، ونيل حريته من نظام طالما تعامل بديكتاتورية وسادية غير مسبوقة، وبذلت جهودا دبلوماسية مضنية بالتعاون مع كل من روسيا وإيران تحت مظلة أستانا، لإنهاء الأزمة التي طال أمدها، وطالت معها معاناة اللاجئين والمهجرين في الداخل والخارج، لكن غرور الرئيس المخلوع وتعنته حال دون الوصول لهذا الهدف سلميا.
لتحسم فصائل المعارضة أمرها وترتب أوضاعها وتشن حربا عسكرية واسعة النطاق ضد النظام، مستغلة التطورات الإقليمية المتسارعة التي تمر بها الدول الفاعلة في الملف السوري على وجه الخصوص، وانشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالإستعداد لتغيير إدارتها الحاكمة.
فروسيا ترُكز على حربها ضد أوكرانيا، طلبا للمزيد من الانتصارات والاستيلاء على مساحات أكبر من الأراضي قبيل وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض، بينما تنشغل إيران في حربها المباشرة مع إسرائيل، ما يجبرها على توفير قدراتها العسكرية لهذه المواجهة التي يبدو أنها ستستمر لفترة من الوقت.
الدور التركي في التطورات السورية
وسواء نفت أنقرة أو اعترفت بدورها في العملية العسكرية التي قادتها فصائل المعارضة المسلحة، وأسفرت عن تحرير سوريا أرضا وشعبا من نظام جثم على أنفاسها على مدى خمسين عاما، فإن الكثير من الدلائل تشير إلى هذا الدور وتؤكده.
فمع الدعم المعلن من جانب تركيا لفصائل المعارضة منذ اندلاع الثورة السورية يصعب قبول إمكانية اتخاذ المعارضة قرارا بحجم شن حرب موسعة ضد النظام دون إخطار مسؤولي الحكومة التركية سلفا بهذه الخطوة، إلى جانب ما يمكن استنتاجه من تصريحات الرئيس التركي نفسه.
فعقب الاجتماع الثلاثي لوزراء خارجية تركيا وإيران وروسيا في الدوحة الذي خُصص لبحث تطورات الملف السوري، وقُبيل أن يكون هناك حديث بشأن نية المعارضة الزحف باتجاه دمشق، صرح أردوغان بأن قوات المعارضة السورية ستتقدم نحو العاصمة دمشق بعد أن فرضت سيطرتها على حلب وإدلب وحماة وحمص.
ثم إن أردوغان هو الرئيس الوحيد الذي وجه خطابا مؤثرا لقوى المعارضة المسلحة التي قادت كفاح الشعب السوري، مهنئا إياها ومعتبرا ما قامت به ملحمة تم تسطيرها بالدماء والأرواح.
أمريكا وتكذيب التصريحات التركية
الإدارة الأمريكية أشارت في تصريحات لعدد من مسؤوليها أنها لم تكن على علم بوجود ما سمته” موافقة ضمنية تركية” على خطط المعارضة السورية المسلحة لمهاجمة نظام الأسد، في تأكيد للمعلومات التي تم تداولها إعلاميا حول قيام ممثلي فصائل المعارضة المسلحة بإخطار أنقرة بخططهم الرامية لتنفيذ عملية عسكرية موسعة ضد النظام السوري قبل 6 أشهر، بعد فشل محاولات المصالحة مع بشار الأسد التي قام بها أردوغان، وأنها حصلت على موافقتها الضمنية.
بينما صرح جيمس جيفري السفير الأمريكي السابق لدى أنقرة بأن عناصر تنظيم الدولة يعسكرون على مرمى حجر من تركيا فعليا، ولذا فمن الصعب القبول بأن تركيا لم تكن على علم مسبق بالتجهيزات التي سبقت الهجوم،
في إشارة إلى وجود علاقات تربط بين أنقرة وهيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع المعروف بأبو محمد الجولاني، بما يسمح بإطلاع عناصر استخباراتها الموجودة في المنطقة على تحركات الهيئة وما تقوم به من استعدادات قبيل الهجوم.
أما إيران فترى أن تركيا خدعتها، وخانت ثقتها، ففي الوقت الذي كانت تدعم فيه خطوات المعارضة المسلحة، وتطلع على خططها لشن حرب ضد الأسد، إدعت أن اهتمامها ينصب على ما يحدث في غزة ولبنان، بل وطمأنتها بأن الملف السوري لن يواجه أية تغييرات في الوقت الراهن على الأقل.
خلو الساحة السورية أمام تركيا
لتخلو الساحة السورية تقريبا من تأثيرات القوى التي طالما زاحمت تركيا فيها، وعرقلت العديد من أهدافها التي سعت لتحقيقها، والتي تدور حول ملفين يمثلان لها أهمية كبرى، الملف الأول يرتبط باللاجئين السوريين الذين تستضيفهم على أراضيها، حيث بدأت تصريحات المسؤولين تصب باتجاه العمل على إعادتهم إلى مدنهم ومناطقهم التي هاجروا منها.
وتحقيقا لهذا الهدف، ومنعا لحدوث تكدسات على المعابر الحدودية التي تربط بين تركيا وسوريا، قررت الحكومة التركية إعادة فتح بوابة يايلا داغي المقابلة لمعبر كسب، بهدف توفير عودة آمنة لملايين السوريين إلى بلادهم، لتغلق تركيا أخيرا ملفا سبب لها الكثير من الإشكاليات على الصعيد الداخلي، وأدى إلى خسارة الحكومة بسببه أغلبيتها في الانتخابات المحلية الأخيرة نتيجة توظيف المعارضة له وتأليب المواطنين ضدها بسببه.
وثانيهما الملف المرتبط بتهديد أمنها القومي نتيجة وجود الجماعات الكردية المسلحة المتمثلة في حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في شمال شرق سوريا، المدعومين من الولايات المتحدة الأمريكية، وتحقيقا لهذا الغرض كثفت القوات المسلحة التركية من وجودها وعملياتها العسكرية وتمشيطها للمنطقة، مما أسفر عن تدمير 12 شاحنة محملة بصواريخ وأسلحة ثقيلة وعدد من الدبابات، ومستودعات ذخيرة تعود للجيش السوري، استولى عليها المسلحون الأكراد، بينما تقوم فصائل المعارضة المسلحة الموالية لها بملاحقة عناصر وحدات حماية الشعب والعمال الكردستاني في المناطق التي يتمركزون فيها.
ثمن الحفاظ على المكتسبات
تدرك الدول الفاعلة في الملف السوري حجم النفوذ والتأثير الفعال الذي أصبحت تتمتع به تركيا في سوريا، ولهذا أعلنت واشنطن أنها تسعى إلى إيجاد قنوات للتواصل مع فصائل المعارضة السورية، وتحقيقا لهذا الهدف فإنها تتواصل مع تركيا لبدء تواصل دبلوماسي غير رسمي معها ليمكنها وضع تصور لماهية علاقاتها المستقبلية مع الإدارة السورية الجديدة.
روسيا هي الأخرى ترى أن مصالحها الاستراتيجية في البحر المتوسط، وضمان استمرار وجودها العسكري، والحفاظ على قواعدها العسكرية يمكن أن يتحقق من خلال تعزيز تعاونها مع تركيا وتكثيف الحوار معها، وهو ما ألمح إليه وزير خارجيتها في تصريحه حول أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ووقف كافة الأعمال العدائية ضدها، في مغازلة واضحة لتركيا.
أما إيران فلم يعد أمامها من سبيل سوى محاولة التعاطي مع الواقع الجديد في سوريا إذا ما أرادت الحفاظ على مكانتها في العراق، ما يتطلب منها بطبيعة الحال التنسيق مع أنقرة التي أصبحت شريكا لا غنى عنه لكل من يريد أن يكون له موضع قدم في سوريا الجديدة.
تغير المعادلات الاستراتيجية، واختلاف الأهداف للدول الفاعلة في الملف السوري يمثلان فرصة ذهبية أمام تركيا لتعزيز مكانتها وتوسيع نطاق نفوذها، والعمل على حماية مكتسباتها التي حققتها نتيجة التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة.
إلا أن استمرار هذه المكانة يظل مرهونا بقدرة أنقرة على إدارة المرحلة بوعي وحنكة، وتحديد الأولويات السياسية والأمنية التي تضمن لها تحقيق مصالحها في ظل التحديات التي بدأت تطل برأسها، وفي مقدمتها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، ومحاولة البعض إثارة الفرقة والفتنه عبر الحديث عن أن من يسيطرون على السلطة بسوريا حاليا يمثلون جزءا فقط من الشعب السوري وليس كل الشعب.