المشهد السوري بعد سقوط الأسد
القضايا الشائكة التي ظهرت بعد “التحرير” لم تكن وليدة اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها سوريا حرّة قولًا وفعلًا بعد تحطيم أصنام هبل، وتمزيق صوره التي صرف عليها من ميزانية الدولة ما يكفي لبناء بلد بكل احتياجاته.
منذ الساعات الأولى للتحرير اغتيلت فرحة الناس الذين هتفوا للحرّية، وللنصر، وخرجوا إلى الساحات ماسحين الصدأ عن أفواههم، والرعب من قلوبهم، ليقولوا ما يشعرون به من دون خوف.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسالة لصديق بغزة انقطعت أخباره
الأمان المفقود في إسرائيل!
ماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟
رحل طغاة العالم كلهم وبقيت المدن، مات نيرون وكاليغولا وهتلر وستالين. ومات حافظ الأسد، وبقيت دمشق.
لكنَّ الشعب السوري المتطلع إلى العدالة سيلاحق بشار الأسد ليحاسبه على جرائمه التي بدأت تظهر للعيان منذ هرَّب قيصر آلاف الصور للمعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب، مع هذا أغلق العالم عينيه بعد ساعات، ورفض محاسبة المجرم، بل كرَّمه الإخوة العرب بإعادته إلى جامعة الدول العربية.
الذباب الإلكتروني
أولى القضايا المؤلمة التي فتحت الجرح السوري، وجعلته ينزف من جديد، خروج المعتقلين من سجن صيدنايا. وبدأ الذباب الإلكتروني مهمته بهمة عالية للطعن في مصداقية تلك المشاهد من خلال بث صور قديمة لمعتقلين تمَّ التعرف عليهم في صور قيصر. ولمعتقلين آخرين من سجون فيتنام، ولأشخاص لم يدخلوا السجن مطلقًا، بل مثّلوا أنهم كانوا في السجن ليقولوا لنا إن الحقيقة التي يصدّقونها عبارة عن مسرحية لتشويه صورة الأسد!
المشكلة لا تكمن في هؤلاء الذين يروّجون، ويبثون تلك الصور ومقاطع الفيديو، بل في الذين يصدّقونها من أبناء الثورة ويعيدون نشرها؛ فقط لأنهم يبحثون عن متابعين و”لايك” غير عابئين بمشاعر أمهات المعتقلين وأقربائهم. والغالبية روَّجوا لوجود أكثر من 2000 صورة لمعتقلين يستطيع أهلهم التعرف عليهم من خلال فتح رابط، يكتشفون بعدها أن الصور قديمة من صور قيصر. وكي يقدموا الجديد في اعتقادهم يقومون أيضًا بتغيير ترتيب الأسماء، وتصميمها بشكل مختلف، فنجدها نفسها عند الجميع مكررة بأشكال مختلفة، لكنَّ لهفة الناس لملاحقة تلك المعلومات عساهم يجدون أبناءهم تعميهم عن الألفاظ المستخدَمة في القوائم، مثل كلمة “معتقل” التي لا يستخدمها النظام في قوائمه، أو “فُقد في المنطقة الفلانية” أو اعتُقل من المنطقة كذا”.
النساء في صيدنايا
المسرح الواقعي الحقيقي، من دون خشبة ولا ممثلين، ولا “مكياج”. مشهد مرعب خارج من أقبية صيدنايا، لا يمكن لمخيلة إنسان كاتب أو ممثل أن يعيد ذلك المشهد كما هو في الحقيقة؛ لأن الفرق شاسع بين أن تعيش الألم أو تتخيله، أن تتحسس مكان الشبْح والتعذيب على جسدك، وتصوُّر ذلك التعذيب. الفرق هو إدراكنا فجأة أننا لا نعرف شيئًا، وأن آلامنا كلها لا معنى لها أمام ما نراه على شاشة الواقع.
ربما لم يتوقف البعض عند عبارة قالتها تلك المعتقلة “أريد هويتي”، عبارة عادية تريد أن تأخذ بطاقتها المدنية من الأمانات، لا تريد أن تخرج إلى الشارع من دون بطاقة؛ لأنها تعرف جيدًا معنى أن تقف على الحاجز من دون بطاقة تعريف بنفسها، تعرف جيدًا كيف سيجرها الجندي إلى غرفة الضابط، وتعرف ماذا يجري بعد إغلاق الباب، ووضع “الطماشة” على عينيها، تعرف معنى نزول الأدراج إلى غرفة المسلخ، وتدرك ما سيجري هناك، فقط لأنها لا تحمل بطاقة!
الحرّية ليست صورة في الذهن، والخوف أيضًا ليس مجرد صورة أو كلمة، المعتقلات يخفن من النور! المعتاد هو الخوف من الظلام، الخوف من المجهول، لكنَّ سجينات صيدنايا يخفن من كل شيء، يخفن الآخر متمثلًا في الرجل المحقق والجلّاد، الظلام المتمثل في الزنزانة، المجهول الذي ينتظرنه كل يوم متمثلًا في وجبة التعذيب والاغتصاب، والآن المواجهة الكبرى مع النور والشارع والأهل والمجتمع والمستقبل.
إحدى السجينات اعتلت جدارًا، ورفضت النزول أو الخروج. كم كان مرعبًا ما رأته خارج الزنزانة حتى رفضت الخروج؟ تلك الطفلة “المرأة” يبدو أن عمرها لا يتجاوز الرابعة عشرة أو السادسة عشرة مع مجموعة فتيات في العمر نفسه، كلهن محجبات وخائفات من الخروج.
أطفال مجهولو الآباء
المشهد الأكثر رعبًا ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الثانية من عمره، الذي وقف مذهولًا أمام باب الزنزانة، يحدّق في هؤلاء الرجال الذين يحطمون الأقفال، ويُخرجون النساء، ويطلبون منهن مغادرة المكان؛ لأنهن أصبحن حرائر.
هذا الطفل الذي لا يعرف من الدنيا سوى وجوه النساء في الزنزانة، والجدران الرمادية القذرة، لم يجعله الضجيج يبكي، لم يجعله تدفق البشر من حوله وصراخ النساء يختبئ في حضن أمّه، أو يبحث عنها، أو يلتجئ إلى الجدار. وقف منبهرًا محاولًا استيعاب المشهد الغريب من حوله، من المؤكد أنه اعتاد الصراخ فلم يجده غريبًا. صراخ النساء بعد التعذيب، صراخ السجانين، أصوات الألم. إنه يشكّل ذاكرته الحية. هذا الطفل سيخاف حين يرى الشارع، ويعرف أن هناك عالمًا آخر لا يمكنه التأقلم معه، لن يفهم معنى للضوء والشمس والسيارات والشجر والطيور وكل الكائنات الحية! سيجد أمانه فقط حين يُغلق عليه باب البيت الذي سيذهب إليه، وتُطفأ الأنوار، وتدثره أمّه بالغطاء.
القضية التي تبرز بحدّة الآن، كيف سيتعامل هؤلاء الأطفال مع المجتمع وليس العكس. ينشغل بال الباحثين عادة بكيفية تقبُّل المجتمع لأطفال مجهولي الآباء، أطفال جاؤوا إلى الدنيا نتيجة اغتصاب أمهاتهم في السجون، أطفال يحملون في جيناتهم مورثات القتلة والجلادين، أطفال معظم آبائهم ملحدون ومن ديانات أخرى غير الإسلام.
هل سيعيد السوريون التجربة التركية في احتواء اللقطاء؟ حيث خصصت لهم تركيا مدارس خاصة، ودرّبتهم ليكونوا من قوات حفظ الأمن مستقبلًا! هذه التجربة كفيلة بتأمين المسكن والمأكل والملبس والتعليم والعمل لهؤلاء، لكن هل تستطيع أن تسيطر على تصرفاتهم وجيناتهم، وتعدّهم أخلاقيًّا ليكونوا بشرًا صالحين في المجتمع؟
المستقبل هو الحَكم.