ما زالت غزة صابرة صامدة ومنتصرة

الاحتلال يواصل مجازره بحق الأهالي في شمالي قطاع غزة (الفرنسية)

يا داميَ العينينِ والكفينِ

إنَّ الليلَ زائل

لا غرفةُ التوقيفِ باقيةٌ

ولا زَرَدُ السلاسل

نيرونُ ماتَ ولم تمتْ روما

بعينيها تقاتل

وحبوبُ سنبلةٍ تموت

ستملأُ الوادي سنابل

 

لا أدري متى كتب الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قصيدته (دامي العينين)، لكني أتذكر جيدا في سنوات الشباب الأولى كم مرة سمعتها، في جامعة القاهرة، معرض الكتاب، ومناسبات فلسطينية عديدة كانت القاهرة تمتلئ بها في كل مناسبات الثورة الفلسطينية، ويوما ما كنت أحتفي بذكرى محمود درويش على قناة النيل الثقافية في ماسبيرو.

قدَّم الملحن المصري حاتم عزت تلك الرائعة فأبكي بصوته ولحنه كل الموجودين في استوديو البث بالمقطم، وطوال الشهر الماضي لم تذهب أغنية درويش عن عقلي، وصارت أنشودتي مع استمرار المجازر اليومية التي تئن بها غزة على مدار الساعة، فلم يعد يتبقى في شمال غزة كتلة سكنية على حالها، ففي ظلام الليل ربما تكون الأحلام ملجأ، غزة التي كانت منذ عامين درة المدن ببهجتها الصامدة الصابرة على احتلال أرض فلسطين، صارت كتلا من الدمار، والأجساد البشرية التي تستشهد كل لحظة ولا يستطيعون حتى تكفينها ودفنها، صارت منازل أبناء غزة مقابرهم، أمس فقط كان هناك 85 شهيدا معظمهم من الأطفال والنساء.

نتنياهو يمرح في أرض العرب

لم تعد أغلب وسائل الإعلام تهتم برصد أعداد الشهداء في أرض فلسطين بعد أن اتجهت إلى معارك أخرى في كل بلدان العرب، وكانت الإحصاءات الأخيرة قد وصلت إلى نحو 50 ألف شهيد، ولم نعد نحن نهتم، نتداول فقط مناشدات من غزة تذكّرنا بأنها تباد بأيدي الجيش الصهيوني، فلم يترك قطعة أرض في غزة إلا ارتوت بدماء الشهداء، الدمار يحيط بكل شبر من الأرض والدماء تسيل، وأردد رغم كل الآلام (وحبوبُ سنبلةٍ تموت.. ستملأُ الوادي سنابل) لم يعد يردع جيش الكيان في العالم أحد، ولم تعد غزة ومجازرها تحظى بالاهتمام في بلداننا العربية والإسلامية.

حانت فرصة التاريخ لنتنياهو وأعضاء حكومته العنصريين ليملؤوا الأرض بالدماء العربية سعيا وراء حلمهم المزعوم بدولة الكيان الكبرى من النيل إلى الفرات، وحققوا أكبر أحلامهم في أصعب الأوقات التي مرت على الكيان، فحيّدوا ساحة لبنان بتوقيع اتفاق وقف النار مع الحكومة اللبنانية وحزب الله، وابتعدت إيران عن المعركة تحت وطأة الظروف العالمية، وجاءت الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد فيستغلها نتنياهو والكيان الصهيوني في تدمير مقدّرات الجيش الذي اختفى في سوريا معمقا لغز اختفاء الجيوش العربية في المعارك، وهكذا أصبحت غزة وحيدة في مواجهة جيش الكيان، وهو أكبر انتصار حققته دولة الكيان في حربها منذ 450 يوما على غزة.

غزة صمدت طوال هذه المدة وتلك الأشهر في مواجهة أكبر جيوش العالم وكل مصانع الأسلحة والذخائر في أمريكا والدول الأوروبية، وما زالت صامدة لا تتنازل عن المقاومة رغم كل جراح أهلها، ولكن الواقع العربي والإسلامي يعطي فرصا أكثر للكيان الصهيوني ليحقق أحلاما كانت منذ شهرين بعيدة تماما، والآن تطمح عصابة نتنياهو الصهيونية في شمال قطاع غزة، وبعض أراضي الضفة الغربية، وقد توغلت كثيرا في أرض سوريا!

غزة لا تتنازل

ما زالت صواريخ القسام تنطلق من غزة لتصل إلى مستوطنات الغلاف في معجزة بشرية لا يصدّقها أي عقل إنساني، فبعد كل هذه المجازر وكل هؤلاء الشهداء، كيف لا تزال غزة قادرة على إنبات مقاومين؟ يضربون بقذائفهم الأمريكية ومدفعيتهم المستشفيات والمدراس التي تحولت إلى مخيمات للنازحين، يبيدون الأخضر واليابس وغزة تقاتل بقلوب أبنائها، يشعلون النار في أجساد النائمين تحت البرد والمطر في ليالي الشتاء القارسة وغزة لا تستسلم، ويعلن جيشهم سقوط قتلى ومصابين بأيدي أبطال غزة، أيام وشهور ثم ندخل إلى عام ثانٍ، وهو ما لا تحتمله جيوش جرارة في دول كثيرة، وما زالت غزة باقية، لا تتنازل.

يقول تقرير للجيش الصهيوني إن حماس تعيد بناء قواتها في كل أرض ينسحب منها جيش الاحتلال، فمن أين تأتي قوة إعادة البناء لأبناء غزة؟ سؤال لا بد لنا أن نفكر فيه كثيرا، هل تحولت قصيدة درويش التي ربما كتبها في إحدى المجازر الصهيونية طوال تاريخ الاحتلال إلى واقع؟ وكما أنبتت حبوب سنابل الشهداء من قبل أبناء الطوفان، يستمر إنبات سنابل أخرى تستعيد الأرض والوطن كاملا محررا، تتوقف النفس البشرية والعقل الإنساني أمام عظمة الشعب الفلسطيني في غزة متأملا تلك القدرة الغريبة على الحياة والصمود والبسالة.

العمليات الفدائية ومهاجمة جيش الاحتلال، تدمير دبابات وآليات يوميا، وسقوط قتلى للكيان المحتل في شمال غزة ومخيم جباليا الذي لم يعد فيه مربع سكني لم يتعرض للدمار، تعطي الأمل في انتصار الشعب الفلسطيني رغم الحصار من كل الجوانب.

انفراط وحدة ساحات محور المقاومة، وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني الوصول إلى تلك النقطة، وجعل غزة والمقاومة الفلسطينية بالضفة الغربية في موقع المستسلم فلم يتم لهم ذلك، توارت غزة عن الشاشات واهتمام الرأي العام العربي والعالمي بفعل مؤامرات نتنياهو وبايدن وترامب، وما زالت غزة تفاجئنا كل يوم بالصمود.

الآن، هل ما زال العالم العربي والإسلامي يتذكر أن غزة صامدة رغم الإبادة؟ هل تسمع الآذان العربية والإسلامية صرخات أبناء غزة من الأطفال والنساء والشيوخ الذين ينادوننا يوميا “نحن نباد”؟ هل ترى عيوننا ليل أبناء فلسطين تحت البرد والمطر دون غطاء بل دون ملابس؟ هل نرى فعلا غير القول لينقذ أبناءنا في غزة من القتل والبرد والمطر؟ وهل يظل العرب صامتين ساكنين تحت أغطيتهم وبجوار المدافئ، ويتركون غزة لمصير قد يكون مؤلما على كل العرب وعلى خريطة المنطقة؟

قد يظن البعض أن غزة والمقاومة قد انتهت، وأن ما يحدث في فلسطين مجرد “حلاوة روح” كما يقول المَثل المصري، ولكن ألا يجعلنا صمود الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية نرى أن هناك فجرا جديدا ربما ينبت ملايين السنابل التي تحرر الأرض وتستعيد الوطن؟ وحينئذ سيكون علينا أن نخجل من أنفسنا حين ننظر في وجوه أبناء فلسطين، فقد خذلناهم بما يكفي. فتذكّروا يا أبناء الأمة أن هناك إخوة لنا يُذبحون في كل لحظة، ولا تنسوا أن أرض فلسطين تنبت كل لحظة مقاوما، وتلك الأرض تنبت بالدماء.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان