سيدة اللغات في يومها العالمي

اللغات هي الجسور التي تربط بين الثقافات، وهي الأداة التي تتجاوز الحدود الجغرافية والاجتماعية، لتوحد الإنسانية في أبهى صورها. منذ قديم الأزل، كانت اللغات ركيزة أساسية في بناء الحضارات؛ نروي من خلالها القصص، نوثق العلوم والفنون، ونرسخ أسس التعايش السلمي بين الشعوب، مما أتاح للبشرية الارتقاء نحو آفاق أرحب من التقدم والازدهار.

يُقدر عدد اللغات في العالم بحوالي 7,000 لغة. هذا العدد يشمل اللغات المستخدمة حاليًا في مختلف أنحاء العالم، ويتوزع بشكل غير متساوٍ بين القارات والدول. فقارة آسيا هي القارة التي تضم أكبر عدد من اللغات، تليها إفريقيا. وهناك لغات يتحدثها ملايين الأشخاص، مثل الإنجليزية والصينية والهندية، وتشير الدراسات إلى أن ما يقرب من 40% من اللغات في العالم مهددة بالانقراض، حيث تتعرض هذه اللغات للتراجع التدريجي في الاستخدام مع انتقال المجتمعات إلى لغات أكثر انتشارًا مثل الإنجليزية والإسبانية.

وفي زخم هذا التنوع اللغوي الهائل، تتألق اللغة العربية كإحدى أبرز اللغات التي تجسد في عمقها عبق التاريخ وروح الأصالة. إنها لغة الضاد، التي أبدع أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف جمالها عندما قال:

“إن الذي ملأ اللغات محاسنا

جعل الجمال وسره في الضاد”

كما اعتبرها الرابط الأقوى بين العرب على مر العصور، مؤكداً على قوة بيانها وفعاليتها في توحيدهم رغم تعدد البلدان والجنسيات:

“ويجمعنا إذا اختلفت بلاد

بيان غير مختلف ونطق”

وبانتمائها إلى مجموعة اللغات السامية، تحتل اللغة العربية مكانة بارزة كواحدة من أكثر اللغات انتشارًا في العالم، إذ يتحدث بها ما يزيد عن 422 مليون نسمة. ويشمل هذا العدد المتحدثين بالعربية في الوطن العربي والدول ذات الارتباط الثقافي والديني الوثيق بالعربية، مثل بعض دول جنوب إفريقيا وآسيا.

وتحظى اللغة العربية بمكانة خاصة كونها لغة القرآن الكريم، الذي نزل بها ليخاطب قومًا لم يكونوا أصحاب حضارة عظيمة، لكنهم امتلكوا أدوات البلاغة والفصاحة، فجاءت المعجزة لتتحدى قدراتهم وتجسد عمق الإعجاز اللغوي في أحرفه وكلماته.

من جانب آخر، تتميز اللغة العربية بجماليتها الاستثنائية وثراء مفرداتها التي تعكس عمق التراثين العربي والإسلامي. وبالإضافة إلى كونها لغة أدبية وفلسفية، فإنها تمتاز بقدرتها الفريدة على التعبير عن أبسط وأعقد المفاهيم، مما يجعلها أكثر قدرة من أي لغة أخرى على مواكبة متطلبات التطور الحضاري والنهضة الفكرية عبر العصور.

نشأة اليوم العالمي للغة العربية

نظراً للأهمية الكبيرة التي تحظى بها اللغة العربية على الصعيدين الثقافي والديني، وكذلك دورها البارز في التواصل بين شعوب العالم، تم اعتماد اليوم العالمي للغة العربية للاحتفاء بها وتسليط الضوء على مكانتها المميزة. يُحتفل بهذا اليوم في 18 كانون الأول/ديسمبر من كل عام، تخليداً لذكرى اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية عام 1973، إلى جانب الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والصينية لتكون بذلك إحدى لغات العمل الست في الأمم المتحدة.

يعُد هذا اليوم فرصة سانحة لتسليط الضوء على جماليات اللغة العربية وتاريخها العريق، حيث تُنظم فعاليات متنوعة حول العالم، تشمل أنشطة ثقافية، معارض أدبية، وندوات علمية تسعى إلى إبراز إسهامات اللغة العربية في الحضارة الإنسانية. كما يُعتبر هذا اليوم دعوة للاعتزاز بهذه اللغة العظيمة التي تعد ركيزة أساسية للهوية الثقافية وجسرًا حيويًا للتفاهم والحوار بين مختلف الحضارات.

التحديات التي تواجه اللغة العربية

رغم التاريخ العريق والمكانة المرموقة التي تحظى بها اللغة العربية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة في عصرنا الحديث. من أبرزها: نقص المحتوى العلمي والتقني باللغة العربية، حيث تعيش المجتمعات العربية في زمن يشهد تطورًا سريعًا في المجالات الرقمية والتكنولوجية. ومع تزايد الحاجة للمحتوى العلمي المعاصر، يظل المحتوى العربي في هذه المجالات محدودًا، مما يعوق قدرة اللغة العربية على المنافسة في الساحة العالمية.

إلى جانب ذلك، فإن هيمنة اللغات الأجنبية، وعلى رأسها الإنجليزية، في مجالات التعليم والإعلام تضعف من استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية. إذ أصبحت اللغات الأجنبية الخيار الأول في العديد من المجالات الأكاديمية والعلمية، وقد ظهرت آثار ذلك بشكل واضح في تراجع حضور اللغة العربية في محيط العمل، حيث بات إجادة اللغة الإنجليزية شرطًا أساسيًا للحصول على وظائف في المؤسسات والشركات، سواء كانت محلية أو عالمية.

كما يواجه التعليم اللغوي تحديًا كبيرًا في العديد من الدول العربية، حيث يعاني النظام التعليمي من ضعف في المناهج وأساليب التدريس التي تواكب العصر. هذا التراجع في مستوى التعليم العربي أسهم في ضعف إلمام الأجيال الجديدة بأساسيات اللغة العربية، مما جعلها تفتقر إلى التمكن من قواعدها ومهاراتها الأساسية.

لذلك فإن مستقبل اللغة العربية مرهون بتضافر جهودنا للحفاظ عليها وتجديدها. وستبقى اللغة العربية على مدى الدهر رمزاً خالدًا لهوية العرب، وتأكيدًا على عراقتهم، وتاريخهم الممتد عبر الزمن. فلو لم تكن العلوم العربية، لما أشرق فجر العلم في الغرب، ولا كانت العقول لتفتح على إسهامات الحضارة العربية التي أضاءت مسارات الفكر البشري وأسهمت في نهضة العالم بأسره.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان