“نحن هنا”.. إليكم “تيتانيك” الصحافة المصرية!

الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين المصرية (منصات التواصل)

لم يكن الصحفيون المصريون في حاجة إلى عقد مؤتمر عام أو خاص لكي يتعرفوا على مشكلاتهم، ولم يكونوا في حاجة إلى تظاهرة إعلامية ضخمة بالتوازي، لكي يضعوا أيديهم على مواطن الضعف ونقاط الخلل، فالمشكلات تتراكم منذ عقود في بلاط صاحبة الجلالة، ويزيد عليها ما يستجد في واقع الممارسة الفعلية من ضيق الهوامش وتهافت المتون.

ما احتاجه الصحفيون المصريون هو صياغة رؤاهم حول كيفية حل المشكلات في بيئة تشريعية تمنع أكثر مما تمنح وفي مناخ اقتصادي يأخذ كثيرًا ويعطي قليلًا وفي ظل رؤية سياسية تعتقد أن الصحافة -مكتوبة ومرئية ومسموعة- مجرد بوق رسمي للدعاية وتابعٍ مخلصٍ وخادمٍ مطيع.

أرادت النقابة التي أنشئت عام 1941 أن تتعامل بالجملة مع المشكلات المتراكمة وليس بالقطعة، في ظل تشابك المعضلات وارتباطها وتعقد طرق الحل ومرورها بين دروب صعبة من القوانين إلى اللوائح ومن الأطر الرسمية إلى الأعراف المتوارثة، ومن تقاليد التاريخ إلى اضطراب الجغرافيا.

فلسطين.. أوجه للتشابه؟

خلال أيام ثلاثة عقدت نقابة الصحفيين المصريين “المؤتمر العام السادس” بحضور عربي ودولي من قيادات الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) وبحضور رئيس وأعضاء اتحاد الصحفيين العرب، وقد اختار القائمون على الأمر أن يلتئم المؤتمر تحت شعار “طريق إلى التغيير” وتحت مسمى “دورة فلسطين” في احتفاء خاص بشهداء وتضحيات الصحافة الفلسطينية لاقى تقديرًا وترحيبًا واسعًا من الوفود العربية والدولية.

قدمت الصحافة الفلسطينية ما يقرب من مئتي شهيد في عموم فلسطين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد ألمح نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر في كلمته إلى أن “الدعم الذي تلقاه الصحفيون الفلسطينيون من النقابة المصرية -ماديا ومعنويا- غير مسبوق”، ربما في إشارة إلى نقابات عربية أخرى لم تقدم سوى البيانات.

يثير استدعاء اسم فلسطين حالة من الشجن الملتحف بالعجز لدى من يتصورون أنه كان بالإمكان أن نفعل شيئا سوى كلمات الأسى والمواساة والبكاء على الوطن المسكوب، لكن الحقيقة أن النظرة المتأنية ربما تلمح أوجهًا للتشابه بين حالة فلسطين وحالة الصحافة المصرية مع الفارق طبعا، فكلاهما تعرض للتدمير والتجريف والتهميش وكلاهما يقف وحيدًا وسط العواصف والأنواء بينما هناك من يرغب ويتآمر بإصرار من أجل تصفيتهما.

حضور وتحديث

رغم ضعف التمثيل الرسمي في افتتاح المؤتمر ورغم اعتذار بعض القيادات القريبة من الدوائر الحكومية فإن مشاركة آخرين والتفاعل والحضور المكثف من الصحفيين بمختلف اتجاهاتهم في جلسات المؤتمر المتنوعة أوجد حالة من الزخم لافتة، ومفتقدة منذ سنوات، وبدا أن أعضاء الجمعية العمومية كانوا ينتظرون فرصة للحديث العلني حول أوجاع كثيرة تضرب مفاصل المهنة وتجعلها شبه عاجزة عن الحركة، وقد انتظروا ثماني سنوات منذ آخر مؤتمر عام عقدته النقابة في 2016، كما انتظروا سنوات أربعا بين (2019-2023) تعطل فيها دور النقابة حتى قام النقيب والمجلس الحالي باستعادة المبنى وفتحه للأعضاء في مارس/آذار 2023 بعد أن أغلقت النقابة أبوابها وطردت مرتاديها بحجة ترميم الواجهة وجائحة “كورونا”، خلال سنوات كئيبة بدا خلالها المبنى الفخم في وسط القاهرة أطلالًا خربة تسكنها الأشباح دون أن يكون فيها مكان للصحفيين.

ما فعلته النقابة المصرية هو القيام بإجراء عملية تحديث (Update) للنقاش حول المشكلات القديمة والطارئة وتوصيف النسخ الأخيرة منها وتقديمها في مخرجات عامة وتفصيلية تحتاج إلى قرارات فيما يتعلق بالأمور التي تقع في اختصاص مجلس النقابة وإلى مطالبات من أجهزة الدولة المتعددة فيما يتعلق بالمجال العام.

ضبط السوق الصحفي

جلسات المؤتمر طافت حول مشكلات تراجع توزيع الصحافة الورقية وارتفاع تكاليف الطباعة من ورق وأحبار وهو ما استوجب توصية بضرورة دعم الصحافة كصناعة من قبل الدولة، وكذلك التوزيع العادل للإعلانات التي تقوم بها الوزارات والهيئات الرسمية وتوجيه جزء منها للصحافة الحزبية.

مر النقاش على مشكلة عدم حصول الصحفيين العاملين في المواقع الإلكترونية التي لا تصدر صحفًا ورقية على عضوية النقابة وهو ما استوجب صدور توصية بتعديلات في لائحة القيد، وتشكيل لجنة من المجلس والجمعية العمومية للبحث عن حل قانوني لضم أعداد ليست قليلة يمارسون الصحافة لكنهم خارج المظلة النقابية.

وقد كان الذكاء الاصطناعي حاضرا لأول مرة في مؤتمرات الصحفيين وحظيت الجلسة المخصصة له بحضور كبير وصدرت توصية بضرورة الاستثمار في تقنياته مع أهمية وضع مدونة وأدلة للاستخدام الأخلاقي والراشد للذكاء الاصطناعي مع التفرقة بينه وبين تقنيات التزييف.

كما صدرت توصية تتعلق بضرورة التنسيق بين كليات الإعلام وأقسام الصحافة وبين النقابة لضبط السوق الصحفي؛ فلا يعقل أن يكون هناك أكثر من 50 كلية وقسما لتخريج دارسي الصحافة دون أن يكون هناك فرص عمل تقترب ولو من بعيد من أعداد الخريجين سنويًّا.

وقد كرر النقيب خالد البلشي في كلمتيه الافتتاحية والختامية وفي توصيات المؤتمر المطالب بالإفراج عن الصحفيين المحبوسين وتبييض السجون وإغلاق هذا الملف، وهو مطلب دائم في كل محفل تشارك فيه النقابة.

استفتاء كاشف

الشيء المختلف بعيدًا عن النقاش حول المشكلات التقليدية هو الاستفتاء الذي أجرته النقابة بين الصحفيين -مستعينة بأكاديميين- وبلغ عدد المشاركين فيه 1568، وقد تكوّن من 34 سؤالًا تم تصنيفها إلى خمسة محاور تغطي الكثير من المستجدات التي طرأت على الحياة الصحفية، وهو أول استطلاع من نوعه منذ 20 عامًا والثاني في تاريخ المؤتمرات العامة للصحفيين حيث جرى الاستفتاء الأول في 2004 إبان المؤتمر العام الرابع.

إذا توقفنا عند بعض الأرقام المفاجئة فقد نحتاج إلى نقاش آخر حيث أظهر الاستطلاع أن 60.5٪ من الصحفيين يعملون في مؤسسات لا تلتزم بالحد الأدنى للأجر الذي قررته الدولة، وهو ستة آلاف جنيه (118 دولارا) كما أن 46% من الصحفيين لا يحظون بأي تغطية تأمينية صحية.

الكارثي أن الاستفتاء كشف أن 13.1% من الصحفيين لا يحصلون على أي أجر وأن 72% من الصحفيين يعيشون على أقل من الحد الأدنى للأجور.

كما بين الاستفتاء أن 48.5% من الصحفيين يعتمدون على بدل التدريب والتكنولوجيا وهو منحة شهرية تصرفها الدولة لكل عضو بالنقابة وقيمته 3900 جنيه (77 دولارا).

وبسبب ذلك فإن 65.5% من الصحفيين يلجؤون إلى عمل إضافي لتعويض تراجع الأجر في العمل الأساسي، لكن المثير أن 29.6% ممن يلجؤون إلى العمل الإضافي ينخرطون في أعمال غير صحفية.

وتكشف الأرقام السابقة عُمق الأزمة التي يمر بها الصحفيون في مصر من الناحية المعيشية بسبب تدني الأجور وانعدامها أحيانا، وإذا أضفنا معضلة انخفاض سقف الحرية وضيق الهامش المتاح أمام الصحافة بأنواعها وتوجهاتها، فربما عجزنا عن توصيف أحوال الصحافة المصرية التي تعتبر من بين الأقدم عربيًّا وإفريقيًّا.

مؤتمر الصحفيين كان محاولة لتجميع المشكلات التي تعاني منها “صاحبة الجلالة” وإطلاق صيحة تحذير “نحن هنا” في محاولة للفت الأنظار إلى أن تضخم مشكلات الصحافة المصرية جعلها عظيمة الحجم تمامًا كما كانت سفينة “تيتانيك” الشهيرة، وأنها تحتاج إلى إنقاذ قبل فوات الأوان يزيل أو يُضعف الجبال الراسخة تحت السطح وتلك الشاهقة فوقه، قبل أن تغرق بفعل السقوط في أخاديد كثيرة تملأ الساحات وتحتل العناوين.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان