سوريا تبحث عن نيلسون مانديلا
1- ملء الفراغ الإيراني الروسي
توافد على دمشق مؤخرا عدد من الوفود الأوروبية الرفيعة المستوى للتعرف والتواصل مع أحمد الشرع الحاكم الحالي لسوريا، كما أن هناك تواصلا وتنسيقا أمريكيا مع القيادة الجديدة منذ اللحظة الأولى.
الغرب يريد أن يحجز مكانا في سوريا ويملأ سريعا الفراغ الناتج عن خروج إيران وروسيا من المشهد هناك، ويتأكد من عدم عودتهما من جديد مع وعد بأن يمد يد العون لسوريا، ويرفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وكذلك رفع العقوبات عن سوريا والمساهمة في إعادة الإعمار والاستثمار في الجمهورية السورية الجديدة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام
عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
الشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
أنقرة حجزت لنفسها مكانا في الصف الأول، منذ دخول الجولاني دمشق وإعلانه سقوط نظام الأسد، فهي الحليف الأول لهيئة تحرير الشام والداعم الأساسي لها، والآن تفكر القوى الإقليمية والدولية في كيفية إعادة صياغة الخريطة السورية طبقا للواقع الجديد وإعادة ضبط التوجهات السياسية السورية لتبتعد عن مسارها السابق، الغرب يريدها حليفا وليس مناوئا أو مصدرا لتهديد مصالحه أو أمن إسرائيل، والدول الكبرى الأخرى مثل الصين تريد أن تتأكد أن مصالحها لن تمس بسوء نتيجة هذه الأوضاع الجديدة، الفسيفساء السورية ستتشكل من جديد.
2- التحول من الثورة إلى الدولة
مستقبل سوريا ما زال غامضا، الزخم الحالي لن يدوم وفرحة سقوط نظام الأسد القمعي ستزول سريعا كما هي العادة، وستبدأ المطالب تضغط على القيادة الجديدة. المطلوب من أحمد الشرع أكثر من قدراته التي اكتسب معظمها في الميدان، وسيواجه تحديات كثيرة، سوريا المنهكة من الحرب الأهلية الطائفية الممتدة لأكثر من عقد من الزمن، وجود جماعات إرهابية، أطماع إسرائيل التوسعية في سوريا، التدخلات الأجنبية في الشأن السوري، ملف عودة ملايين اللاجئين السوريين، وكيفية توفير مساكن وفرص عمل لهم تمهيدا لعودتهم إلي أرض الوطن بأسرع وقت.
الدولة السورية ليست بحاجة إلى مقاتلين بعد سقوط نظام الأسد، لكنها بحاجة إلى قائد سياسي حكيم صاحب رؤية واضحة لمصلحة بلاده، ليصيغ مستقبلا يجمع السوريين على قدم المساواة كما فعل نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، حين حقق توافقا وطنيا في بلد يعيش أهوال الفصل العنصري.
تحولات نيلسون مانديلا نموذج للنضج السياسي، فلقد انضم في البداية إلى المؤتمر الوطني الإفريقي الذي كان يسعى للحصول على حقوق الأفارقة السود في جنوب إفريقيا، ثم أصبح ناشطًا في الحركة المناهضة للتمييز العنصري.
في البداية، كان نضال مانديلا من أجل الحقوق المدنية من خلال وسائل سلمية، ولكنه شعر بفشل هذا النهج في إحداث تغيير حقيقي، فتحول إلى الوسائل المسلحة.
أسس مانديلا في عام 1961 الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي تبنى عمليات مقاومة مسلحة ضد النظام. وكان هذا التحول مدفوعًا بالاعتقاد بأن النظام العنصري لا يمكن إسقاطه إلا بالقوة.
في عام 1962، تم اعتقاله والحكم عليه بالسجن مدة 27 عامًا قضاها كاملة، وبعد إطلاق سراحه عام 1990 ثم انتخابه رئيسا عام 1994 اتخذ موقفا مغايرا تماما وغير تقليدي، قائما على المصالحة والتسامح مع الذين كانوا جزءا من النظام العنصري بدلا من الانتقام، لتحقيق الاستقرار الوطني وطي صفحة الماضي بحثًا عن مستقبل يوحد الأمة الممزقة.
ربما يكون الوضع في سوريا أكثر تعقيدا، فهي لا تعاني فقط من النزاعات الطائفية ووجود مليشيات مسلحة متعددة الهوية، بل تعاني أيضا من التدخلات الأجنبية، وهنا يجب علي أحمد الشرع أو أي شخص يقود سوريا في المرحلة المقبلة أن يعمل وفق مصالح سوريا وليس مصالح القوى الخارجية الحليفة حتى لا يقع فيما سبق أن وقع فيه بشار الأسد حين راهن على الحماية الإيرانية الروسية لنظامه ولم يعتمد على حماية شعبه.
3- القائد يأكل آخرا.. القيادة بالقدوة
دام حكم عائلة الأسد أكثر من نصف قرن، كان حكما بعيدا عن العدل والمساواة والحرية والكرامة ولم يحقق لشعبه الأمان، بل أسس للانشقاق في المجتمع السوري، كان حريصا على بقائه أكثر من حرصه على مصلحة الشعب.
سوريا الجديدة في حاجة إلى قائد من نوعية أخرى مختلفة عن تلك الموجودة في الحكم في العديد من دول العالم الثالث والدول التي لا تتمتع بحكم ديمقراطي رشيد، فهي ما زالت في أزمة وجودية، ولا بد أن يكون للقائد في مرحلة الأزمات مقومات تؤهله، أولها الصبر والثبات أمام المعوقات والتحديات وأن يكون لديه رؤية استراتيجية لبلاده وعقيدة ثابتة في الدفاع عن أمنها القومي وحدودها الجغرافية، وقادر على اتخاذ القرارات الصعبة لصالحها وتحمل عواقبها، ولديه موهبة التواصل مع جميع أطياف المجتمع السوري وأن يحوز القبول والرضا الشعبي، وأن يكون قدوة لهم في الإيثار، خاصة في هذه الفترة الصعبة اقتصاديا، وأن يشعر كل مواطن سوري بأن مصلحته تسبق مصلحة القائد الذي يكون آخر المنتفعين بخير بلاده وليس أولهم كما يحدث في دول كثيرة حولنا حين يثري الرئيس وأسرته وعشيرته وتابعوه على حساب الشعب ومن أمواله.
منذ عشر سنوات كتب سيمون سينك كتابا بعنوان: “القادة يأكلون آخرا” تحدث فيه عن مؤهلات القيادة وأهمها أن يشعر القائد بمسؤوليته عن من يقودهم سواء كان رئيس دولة أو قائد جيش أو مدير شركة، على القائد دائما أن يفكر في كيف يحمي مصالحهم ويحافظ علي حقوهم قبل التفكير في نفسه، ليشعروا معه بالأمان والامتنان والولاء المبني على أسس مستحقة وليس نتيجة امتيازات ممنوحة، كما يحدث من الحكام الفاسدين الذين يغدقون على تابعيهم الامتيازات لكي يحصلوا منهم على ولاء وقتي كاذب.
يجب على القائد أن يكون صاحب مبادئ أخلاقية ويكون أول المخلصين لها العاملين بها، يحترم القانون ويحكم بالعدل والمساواة بين جميع أفراد الشعب، يتفهم طموحاتهم ويعمل على تحقيقها ويشعرهم بمشاركتهم إياها.
التحدي أمام أحمد الشرع كبير، وكذلك أمام أي شخص يقود سفينة سوريا في زمن الطوفان والعواصف العاتية، لكن أيا كان من سيقود فلو قاد شعبه بالحق والعدل والمساواة سيصل إلى بر الأمان والشعب السوري يستحق بعد طول معاناة مستقبلا أفضل.