سوريا.. بين استبداد آل الأسد و”مجهول” الفصائل المسلحة!

مقاتل من المعارضة يحمل سلاحًا عند مدخل مدينة سراقب في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا (رويترز)

أطلقت جبهة تحرير الشام، وفصائل مسلحة أخرى، عملية عسكرية أطلقوا عليها اسم “ردع العدوان”، ضد قوات نظام دمشق.

العملية تحقق تقدمًا كبيرًا، وتعيد السيطرة على المناطق التي كانت قد فقدتها الجماعات المسلحة في إدلب وحلب وحماة، وربما تتجه إلى محافظات أخرى ما دام الطريق مفتوحا لها؛ إذ تفر قوات جيش الأسد من أمامها.

نعود بالذاكرة إلى عام 2015 حيث كانت قوات المعارضة في طريقها للسيطرة على دمشق، ووضع نهاية للنظام وعائلة الأسد التي تحكم سوريا بقبضة من حديد منذ 1970؛ من حافظ الأب إلى بشار الابن.

دعم روسيا وإيران للأسد

التدخل العسكري الروسي أوقف تقدم المعارضة، وأنقذ بشار الأسد من السقوط، وجعله يستعيد معظم المناطق التي خسرها أمام الجيش الحر والفصائل المسلحة.

روسيا قاتلت بشراسة، وسلاحها الجوي حسم المعارك، والنظام كثف من استخدام البراميل المتفجرة، ولم يميز بين مدنيين ومقاتلين.

سوريا صارت محرقة لشعبها الذي سقط منه نحو نصف مليون قتيل، وشُرّد الملايين في الداخل والبلدان المجاورة والعربية وأوروبا والعالم.

إيران ورغم تدخلها المبكر لدعم حليفها بشار فإنها لم تستطع إنقاذه بما يكفي، ولم تكن وحدها عبر خبرائها العسكريين وسلاحها وانتشارها في مختلف مناطق سيطرة النظام، بل حركت عشرات الجماعات المسلحة والمليشيات الطائفية التي تدين بالولاء لها للقتال، مليشيات من العراق، وباكستان، وأفغانستان، وجمهوريات آسيوية أخرى، وكلها ذات لون طائفي واحد.

لكن حزب الله اللبناني كان الورقة الحاسمة في أيدي إيران حيث دفعته إلى التدخل، وهذا الحزب قوة مقاتلة مدربة ومسلحة جيدًا، لهذا كانت فاعليته ملموسة في المعارك، ونجح في استعادة مناطق من أيدي قوى المعارضة التي يصفها نظام الأسد كلها بأنها تنظيمات تكفيرية.

وقتال حزب الله في سوريا أضر صورته لدى الشعوب العربية والإسلامية، ولم يرمم بعض هذه الشعبية إلا دعمه لغزة في حرب الإبادة الصهيونية المستعرة حاليًّا.

عسكرة ثورة سلمية

الثورة في سوريا بدأت سلمية، وظلت طوال ستة أشهر ملتزمة بالسلمية ولا تمتلك في تظاهرتها إلا الهتافات والمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية جذرية في بنية وهياكل النظام للتوجه نحو ديمقراطية مدنية تشمل كل السوريين دون تمييز ديني أو طائفي أو عرقي أو قومي، لكن النظام أطلق الرصاص الحي منذ اليوم الأول على المحتجين المسالمين.

بعد سقوط ألوف القتلى والجرحى وتشريد مئات الألوف، حيث وجه النظام آلته العسكرية بكل قدراتها ضد شعبه، قام الثوار بتشكيل فرق عسكرية وتدربوا وتسلحوا دفاعًا عن أنفسهم ومواطنيهم، وتدريجيًّا بدأت سوريا تغرق في حرب أهلية حقيقية، وحصلت انشقاقات في الجيش والنظام، وظهر التطرف وجماعات الإرهاب، ولم يعد الاقتتال أهليًّا، بل أصبحت الحرب إقليمية ودولية.

تمزقت سوريا بفضل غباء نظام سياسي مستبد لا يعرف لغة الحوار والإنصات لشعبه، وليس عنده سوى لغة القتل والسحق.

بشار والإصلاح الضائع

كان هناك تفاؤل عندما تولى طبيب العيون الشاب بشار الحكم عام 2000 بأن يجري إصلاحات سياسية، وقد وعد بالتغيير، لكن سقطت الوعود سريعًا، وانتقل إلى خانة التشدد، وقمع الأفكار الإصلاحية، ودشن نفسه حاكمًا فردًا، وككل الدكتاتوريات اعتمد على طائفته، ومن داخل طائفته كانت عائلته، ومن العائلة كان الأشقاء والأصهار فقط، وهذا هو دأب كل دكتاتورية حاكمة.

ضيع بشار فرصة تاريخية للإصلاح السياسي الجذري ليكون رئيسًا بإرادة شعبية، وليس بتعديل دستوري خلال دقائق ليتولى الحكم وسط زفة نيابية مبرمجة، وليكون حاكمًا برضا مواطنيه، وليس بإخضاعهم بالقوة.

وضيع بشار بلاده، وشتت شعبه، ومنح بممارساته فرصة لظهور جماعات إرهابية على رأسها جبهة النصرة، وتنظيم داعش الدموي، وترسخت انقسامات وكراهيات وأحقاد شعبية هائلة لن يعالجها إلا استعادة الناس لحريتهم وكرامتهم وإطلاق مبادرات للإنصاف والمصالحة في ظل نظام سياسي مدني ديمقراطي جديد لكل السوريين.

ظروف دولية غير مواتية

استفادت الجماعات المسلحة من الأوضاع والظروف الحالية غير المواتية للأسد؛ إذ إن داعميه مشغولون في أزماتهم وحروبهم، روسيا غارقة في أوكرانيا، وإيران مهددة من إسرائيل، وحزب الله خرج من المواجهة مع إسرائيل جريحًا، والعرب ليس في أيديهم شيء يقدمونه للأسد غير تصريحات سياسية مساندة له، وأمريكا بايدن وترامب منشغلة بالدفاع عن إسرائيل، وربما إذا حصلت على ضمانات من المعارضة السورية بشأن أمن إسرائيل، فقد تمرر تمددها وتوسعها، بل والخلاص من النظام نفسه.

وتركيا لن تبكي الأسد، فهي دعمته ونصحته كثيرًا فور اندلاع الثورة بضرورة إحداث تغيير سياسي جاد، لكنه لم يستجب، ومضى في طريق الدم والنار.

مع هذا ليس مؤكدًا تهاوي النظام، وسوريا قد لا تستقر وتتوحد مجددًا إذا اختفى الأسد، فقد تذهب إلى المجهول مع الفصائل المسلحة، خاصة ذات اللون الديني، إذا وسعت مناطق نفوذها، أو سيطرت على البلد، وتجارب ليبيا واليمن والسودان في الاحتراب الأهلي بعد الثورات صادمة وغير مشجعة، وتجارب التحول الديمقراطي السلمي في مصر وتونس مُحبطة، والجزائر ترواح مكانها، والربيع العربي انتكس كله.

الفشل الثوري والديمقراطي مسؤولية مشتركة بين الأنظمة القديمة المتشبثة بالسلطة، ولو جرت الدماء أنهارًا، وبين الثوار الجدد المتلهفين إلى السلطة، والفاقدين للقدرة على إدارة الدول والشعوب بحكمة ومسؤولية، وبينهما شعوب بلا تجربة وخبرة في احترام معاني الحوار والديمقراطية والحرية والحقوق، وقوى إقليمية تسخر قدراتها لإفساد التغيير لأنه قد يؤلب شعوبها عليها، وقوى دولية تعتبر مصالحها أهم عندها من الديمقراطية التي تنتهجها.

تقديري أنه لا أمل قريبًا في تغيير سياسي ديمقراطي حقيقي في بلدان العرب؛ لا عبر الأنظمة القائمة، ولا بثورات سلمية مجددًا، ولا تغيير بقوة داخلية أو خارجية.

هذه منطقة تستعصي على التعافي من سرطان الاستبداد المستوطن بعمق في جسدها الميت.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان