صاحب روح الروح شهيدا

خالد نبهان مع ابنه ضياء وحفيدته الجديدة
شهيد فلسطين خالد نبهان مع ابنه ضياء وحفيدته الجديدة (الجزيرة مباشر)

لا تزال أحداث غزة تعطي الدروس والعظات للأمة والبشرية جمعاء، ليس على المستوى الديني فقط، بل والمستوى الإنساني، وأن هذه الحرب التي تمارس على غزة بكل مفردات الإجرام ستحتاج إلى رصد لعبارات هذه المحنة التي خرجت من قلوب الناس، لتترجم على ألسنتها، فتصير مثلا، وتصبح جملا محفوظة ومرددة بين الناس، لتعطي معنى جديدا من المعاني التي كانت تمر الناس عليها مرور الكرام، فإذ بها تقف أمامها وقفة أخرى، مثل عبارات: لا سمح الله، وعبارة الجد الذي ودع حفيدته الشهيدة بقوله: روح الروح.

هذه الكلمة التي كثيرا ما تردد، كلمة روحي، وروح، في سياقات رومانسية، وتقال في الغناء العاطفي، لكنها أصبحت الآن محصورة في سياق واحد، لا تنصرف الأذهان إلا إليه، ولا يخطر ببال أحد معنى إلا معنى الفقد للأحبة في موضع الشهادة، وهي الكلمة التي خرجت من خالد نبهان المواطن الفلسطيني بأرض غزة منذ عام، وقد حمل حفيدته التي قتلتها رصاصات الصهاينة، ويريد رجال الإسعاف أخذ الطفلة منه، لعمل إجراءات التكفين والدفن، فيحملها طويلا، ثم يبرر ذلك بقوله: إنها (روح الروح)، وتحمل الأخبار منذ أيام قليلة خبر استشهاد الجد، ليلحق بالحفيدة، فتلحق روح الجد، بروح الروح، وتظل عبارته وجملته وموقفه، حاملات لدروس عظيمة، تحتاج لوقفات مهمة معها.

عبارة مقتبسة من حديث قدسي:

إن أول ما نقف مع كلمته، أنها رغم أنها مفردة إنسانية، لكن الرجل وهو في ثيابه واضح أنه متدين تدينًا معينًا، فلباسه وعمامته، تدل على أنه من جماعة (التبليغ والدعوة)، فالعبارة المستدل بها مقتبسة من نص حديث نبوي قدسي يقول: “إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ وفي رواية: “وقرة عينه؟”، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه ‌بيت ‌الحمد”، فروح الروح، هو ثمرة الفؤاد، قلب القلب، وقرة العين.

كما أن العبارة صكت من القلب فدخلت قلوب الناس، ولإخلاص الرجل في كلمته التي خرجت في موقف ثبات وصمود كبيرين، هذه العبارة العفوية التي تحمل مضمونا إعلاميا لخص كلمات كثيرة، ولو أرادت ذلك شركة دعاية لظلت تعد لها مدة طويلة، دون ضمان نجاحها مثلما نجحت هذه العبارة، التي أوصلت ما يجري في أرض غزة من مجازر للأطفال، في عبارة ومشهد قصير جدا، لكنها موجزة ومعبرة وبليغة، في لغة تحمل عاطفة جياشة، أبكت من شاهدها، بل ظلت تتردد ويستشهد بها بعد ذلك، دلالة على وصول المضمون بأيسر طريقة وأسرعها.

محبة لا تقدر بثمن:

الوقفة الثانية المهمة: أن الرجل رزق محبة في القلوب بغير سابق معرفة، وبعدد هائل، سواء في التعاطف مع موقفه مع حفيدته، أو عند استشهاده، رغم أنه لا يربطه بالناس علاقة، وليس لذلك معنى سوى أن الله كتب محبة الرجل في قلوب الناس، بغير سبب بشري، بل بأسباب تتعلق بموقفه وبعلاقته بربه، وهو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله العبد نادى جبريل: ‌إن ‌الله ‌يحب ‌فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: ‌إن ‌الله ‌يحب ‌فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض”.

وهذا الحب الذي كتبه الله بين الناس للرجل، لم يكن لمنصب دنيوي، ولا لشيء آخر، وليس شخصية مشهورة، بل نال ذلك من شرف القضية التي يحملها، وهي قضية غزة، وهو درس مهم للإنسان في حياته، أنه لا يمثل قيمة بشخصه، بل يمثل قيمة بقدر ما يتمسك من حق وخير، وبقدر ما يكون هذا التمسك والعطاء للحق والخير والإنسانية.

موقف ختمت به حياته:

ربما نظر البعض لموقف صاحب مقولة: روح الروح، أنه موقف وحيد، لم يعرف له غيره، وهو ما يدل على أن الناس لا تعرف بكثرة المواقف المعلنة، بل بخواتيم الإنسان، وربما تجد لبعض الناس موقفا وحيدا، لكنه يخلد به في التاريخ، وهو ما شهد به تاريخنا الإسلامي كثيرا، فهناك من الصحابة من تجد له موقفا وحيدا لا يعرف الناس له غيره، لكنه موقف دائم الاستشهاد به، ففي السيرة النبوية نجد صحابيا هو الحباب بن المنذر، لا يكاد يعرف له سوى موقفه في غزوة بدر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله ‌منزل ‌أنزلكه ‌الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك، ثم غور كل قليب بها إلا قليبا واحدا، ثم احفر عليه حوضا فنقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أشرت بالرأي.

فصاحب مقولة روح الروح، الذي لا يعرف الناس له سواها، جعلهم يبحثون عن مواقف أخرى له، فوجدوا رجلا معطاء، وله أيادٍ بيض على الإنسان والحيوان لم يكن يسمع بها العالم، لكن العبارة التي خرجت لحفيدته، جعلت حياته تختم خير ختام، وجعلت الألسنة تلهج بالترحم عليه والدعاء له، في مشهد لا يحدث إلا لأمثاله من أهل العطاء والنضال، ولو دفع الإنسان ماله كله ليحصل على ذلك لما ناله بالمال، لكنه نال ما نال من موقفه، وسيرته التي صارت مثلا بين الناس، رحمه الله وتقبله في الصالحين.

 

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان