عندما يصبح الإعلام عبئا على السلطة

مبنى نقابة الصحفيين المصريين

في الأحوال كلها يُعد الإعلام بوسائله كافة، المسموعة والمرئية والمقروءة، أحد محاور دعم الدولة والوطن، في أي مكان وأي زمان، حتى لو كان ذلك الإعلام يمثل قوى المعارضة السياسية، أو الأحزاب المنافسة للحزب الحاكم، ذلك أن دور الإعلام في نهاية الأمر هو التنوير والمكاشفة، أيًا كان شكل نظام الحكم، وأيًا كان حجم انتقاده لذلك النظام، نتيجة ممارسات خاطئة، أو توجهات مخالفة للدستور والقانون، إلى غير ذلك من أوجه النقد التي تضيق بها السلطة في الأنظمة الشمولية بشكل خاص.

الخطر هو أن يصبح الإعلام الرسمي الذي تنفق عليه الدولة من موازنتها العامة، أحد الأعباء أو المعوقات التي تعرقل مسارها، وتسيئ إليها، وتنتقص من قدرها، ويستمر هذا الوضع سنوات طويلة دون رادع، أو على الأقل دون أدنى محاولة لتصحيح هذا السلوك الغريب الذي يصبح حديث الداني والقاصي في الداخل والخارج، ويصبح أثر ذلك واضحًا تمامًا، في تدني نسب المشاهدة التليفزيونية وأرقام التوزيع الصحفية، إلى الحضيض أحيانًا، بل وانصراف المواطن عن هذه وتلك إلى ما يعرف بالإعلام المناوئ، الذي لا تحبذه السلطة الرسمية، بل تتهمه بالتطرف والإرهاب.

الإعلام الرسمي خرج عن المألوف، وعن المهنية، في بعض البلدان، إلى الحد الذي أصبح من الطبيعي معه، أن نشاهد مذيعًا تلفزيونيًا في إعلام السلطة يردد بين الحين والآخر: (من لا تعجبه سياسات البلد، أو ممارسات السلطة الرسمية، عليه أن يغادر البلاد، إلى غير رجعة)، كما أصبح أمرًا عاديًا، أن نشاهد مذيعًا آخر وهو يحرض على قوى المعارضة قائلًا: (من يتواجد في الشارع في إطار المظاهرات أو الاحتجاجات، على قوات الأمن أن تقتله فورًا بالرصاص، ودون تردد)، أو مذيعًا ثالثًا يحرض على السجناء السياسيين، مطالبًا بالتعسف معهم، وعدم الإفراج عنهم أو العفو، مستنكرًا أي توجه إيجابي للدولة في هذا الشأن، إلى أن سمعنا أخيرًا الأكثر غرابة من ذلك كله، فوجدنا من يتوعد المعارضين بالخارج بعد موتهم، بعدم دفنهم داخل الوطن، بما يعني أن الموت ليس كافيًا لإنهاء الخصومة السياسية!!

هي مرحلة من الغباء والجهل في آن واحد، أي أنها ليست انفلاتًا، ذلك أن الانفلات في أي من المحاور الأمنية أو الإعلامية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها، يكون قصير الأجل، لا يستمر طويلًا، خصوصًا في الأنظمة المستقرة، ولو أن هذا الانفلات في أي من المحاور استمر سنوات طويلة، تتجاوز العقد من الزمن، فنحن أمام جهل يؤدي، كما هو واضح، إلى الفشل، مما يسفر في نهاية الأمر عن خسائر مادية كبيرة، وفساد مالي بلا حدود، ناهيك من حالة التخبط والاستقطاب في الشارع، نتيجة لجوء المشاهد والقارئ إلى أخرى مناوئة للنظام، أو على أقل تقدير إلى قنوات وصحف خارجية، ولكل مساوئه التي نرى أثرها في كل مكان، وبين كل الأعمار.

“أراجوزات” الإعلام

أمامنا نماذج صارخة في الأنظمة الشمولية لما نحن بصدده، ذلك أن عدد القنوات التليفزيونية، وعدد الصحف التي قد يمتلكها النظام، هي الأكثر من بين كل العصور السالفة، بينما عدد القنوات والصحف التي تعمل لحساب النظام ولا يمتلكها، فحدث ولا حرج، خصوصًا إذا علمنا أن القنوات والصحف الخاصة وغيرها، أصبحت متشابهة مع المملوكة للدولة، إلى الحد الذي يصعب معه التمييز بينها، وهو ما جعل من الإعلام بشكل عام، أداة ضياع وتشتت، بلا هوية وطنية أو ثقافية أو دينية، في الوقت الذي ترتفع فيه نفقات ذلك النوع من الإعلام، نتيجة المنافسة مع آخرين هنا أو هناك، جعلوا من المهنية أولوية، استطاعوا من خلالها خطف الأضواء، والاستحواذ على النسبة الأكبر من المشاهدة أو القراءة.

مع اعتماد مثل هذه الأنظمة على أهل الثقة دون أهل الخبرة، أصبحت هذه الفئة ممن يطلقون على أنفسهم “إعلاميين” في عداد “الأراجوزات” أو “البلياتشو” من وجهة نظر المشاهد، إلا أن ذلك لم يردعهم، بل على العكس أصبحوا يزايدون على النظام بما ليس فيه أحيانًا، وبما لم يطلبه في كثير من الأحيان، حتى تحول الأمر إلى مواجهة مع المواطن، بهذا الشكل المقيت الذي يحرضون فيه على القتل، أو على الطرد من البلاد، أو عدم الدفن فيها بعد الموت، وما شابه ذلك، بعد أن نصبوا أنفسهم أوصياء على السلطة التنفيذية، بل على الوطن بشكل عام، وهو أمر غاية في الخطورة، خاصة إذا علمنا أنهم يعملون من خلال جهات أمنية، وليس من خلال منظومة متخصصة، ترتكز على قواعد علمية وتعليمية.

ولا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى تذكير إذا قلنا أن محطة إذاعية واحدة، المعروفة بـ(صوت العرب) التي تبث من مصر، كانت كفيلة وحدها في عصر من العصور، أن تمثل قوة مصر الناعمة في الداخل والخارج معًا، بما يعني أن القضية لا تتعلق بكثرة عدد المحطات الإذاعية والتليفزيونية، أو عدد الصحف، قدر تعلقها بالأداء والمضمون، واحترام عقلية المستمع والمشاهد والقارئ، الذي أصبح يفتقد إلى الشكل والمضمون في آن واحد، بعد أن تحولت الساحة إلى حالة من الردح على مدار الساعة، وأصبحت المنافسة بين الردح والغباء والجهل، على الرغم من انتشار كليات الإعلام وخريجيها وأساتذتها، وهو ما جعل من جدوى دراسة الإعلام في حد ذاتها، مثار جدل ونقاشات حادة في الأروقة التعليمية والإعلامية بشكل خاص، والشعبية بشكل عام.

إرادة السلطة

وفي مصر أيضًا، شهدت نقابة الصحفيين، هذا الأسبوع، مؤتمرًا موسعًا على مدى ثلاثة أيام، نوقشت خلاله المشاكل المتعلقة بالإعلام عمومًا، والصحافة خصوصًا، كان الجزء الأكبر منها يدور حول حرية إصدار المزيد من الصحف، والمزيد من المواقع الإخبارية الإلكترونية، والمطالبة برفع الأجور والبدلات، لمواجهة الغلاء والحالة المعيشية القاسية، والدعوة إلى إطلاق سراح سجناء الرأي، وغير ذلك من كثير، إلا أن النهوض بالإعلام أو بالصحافة، لاسترداد دورها التنويري، أو قوتها الناعمة، لم تكن هي الأساس في تلك المناقشات، أو ذلك المؤتمر، اعترافًا بالواقع، وهو أن ذلك الأمر يتعلق بإرادة السلطة الحاكمة وحدها، وليس بالقائمين على أمر المهنة.

وربما كان التحول الجذري من النقيض للنقيض، الذي شهدناه في موقف الإعلاميين السوريين، عقب انهيار النظام هناك، دليل آخر على أن الإعلام في منطقتنا العربية -إلا ما ندر- لا يدور أبدًا في فلك المشاهد أو القارئ، أو لا يبحث عن صالح الوطن، بقدر ما يدور في فلك السلطة، ويخدم مصالحها، وهو ما يجعل من المهنة في حد ذاتها، أمرًا مشينًا، لا ينال احترام المواطن، ويجعل من الإعلاميين هدفًا للانتقام وتصفية الحسابات، سواء في وجود السلطة ذات الصلة، أو بمجرد انتهاء صلاحيتها.

وتكفي الإشارة هنا، إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت متخمة بردود الأفعال من هذا النوع، الذي يتوعد هؤلاء “الرداحين” بنفس ما يرددون، ومن بينه عدم الدفن في تراب الوطن، بل ونبش قبورهم، في حال ما أصبحت لهم قبور! وفي الأحوال كلها، نحن أمام مأساة، أصبح الإعلام فيها عبئًا على النظام، وليس سندًا، كما يعتقد الواهمون، أقصد المسؤولين، إلا أن طريق الإصلاح وتدارك الأخطاء يبقى دائمًا هو الأيسر والأقرب للصواب، فهل من مجيب؟

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان