قراءة مختلفة في جيش النظام السوري المخلوع
في أكتوبر من عام 2010، كنت في زيارة لدمشق قادمة من الإمارات حيث كنت أقيم، وذلك بغرض العلاج. لم تكن تلك أول زيارة لي لسوريا؛ فقد سبقتها عدة زيارات مع العائلة، حيث كانت رحلاتنا السياحية تمر عبر المعابر البرية من الأراضي الأردنية. لكن الزيارة هذه المرة حملت في طياتها أبعادًا مختلفة.
من اعتاد السفر إلى سوريا يدرك جيدًا كيف يمكن أن تتحول لحظة التوقف عند المعابر الحدودية إلى تجربة مثيرة للتوتر. فغالبًا ما يقابلك أحد الضباط بتجهم، ويطلب منك الانتظار بحجة “تدقيق المعلومات الأمنية” أو لأسباب أخرى غير واضحة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟
انتصار غزة وهزيمة نتنياهو
25 يناير.. الحرية والمرأة والفن
هذا المشهد، الذي يبدو روتينيًّا للعديد من المسافرين، خاصة أولئك الذين يمرون عبر الحدود من أجل التجارة أو النقل، لا يخلو من رسالة غير معلنة. فالحل موجود، لكن “الإكرامية” تظل هي السبيل الوحيد لتسريع الإجراءات. تضعها في جواز سفرك، وفي لحظات، تختفي العبوسات، وتنتهي عملية الدخول كما لو أنها لم تتأخر قط.
فساد إداري مستشر
لقد أصبحت هذه الممارسات جزءًا من واقع الحياة اليومية، حيث يلتقي الفساد الإداري بالعُرف المتبع في ظل ظروف اقتصادية خانقة. تلك العبارات المألوفة، مثل “شو جايب لنا معك؟”، التي يرددها بعض ضباط المطار، قد تكون في الظاهر مداعبة عابرة، لكنها في حقيقتها تعكس حالة من الاستغلال الضمني. يتطلب الأمر “إكرامية” سريعة كي تتمكن من التقدم بسلاسة دون تأخير أو تعقيدات.
عند عودتي عبر مطار دمشق الدولي، واجهت موقفًا غير متوقع. كان الضابط يقلب جواز سفري بوجه متجهم، يبحث عن شيء ما بعناية. بعد لحظات، رفع رأسه وسأل بحدة: “أين ختم الدخول؟” كان الأمر يبدو كما لو أن الختم اختفى من جواز السفر. حاولت أن أشرح له بأن تذكرة السفر وختم الخروج من الإمارات واضحان في الجواز، لكن محاولاتي باءت بالفشل. كان مصممًا على اتهامي بدخول غير قانوني، وكأنني ارتكبت جرمًا يعاقب عليه القانون.
في تلك اللحظة، شعرت بقلق شديد، وكان الجهد لإقناع الضابط عبثيًّا. همس لي رجل من خلفي قائلًا: “ادفعي أي شيء…” وفهمت المغزى، فدفعت المبلغ المطلوب. فجأة، ظهر ختم الدخول، ليختفي الضابط مبتسمًا، وتختصر تلك اللحظة كل شيء: الفقر، الحاجة، والفساد.
هذا الموقف لم يكن مجرد مسألة ختم في جواز سفر، بل كان انعكاسًا لحالة أكبر من الواقع السوري، حيث أصبحت الرشوة جزءًا من الحياة اليومية، لم يعد من الممكن تجاهله، وهو لا يعكس بالضرورة كل من خدم في هذا النظام، لكنه يمثل نسبة كبيرة لا يستهان بها.
عندما أسترجع ذلك الموقف بعد سنوات، وخاصة بعد سقوط النظام السوري، أدرك حجم الكارثة التي كنت شاهدة عليها دون أن أعيها تمامًا. فقد رأى العالم المأساة: معتقلون في سجون سرية، تعذيب ممنهج لأشخاص جريمتهم الوحيدة دخول سوريا للسياحة أو الدراسة أو حتى العبور. بعضهم قُتل، وآخرون اختفوا بلا أثر.
وأتساءل الآن: كم من أولئك الذين وقفوا مكاني لم يعودوا إلى ديارهم قط؟ وكم من الحكايات طُمست تحت التراب أو غيّبت خلف قضبان الصمت والوحشية؟
رشوة فرضها العوز
عندما تدرك أن راتب الجندي في جيش النظام المخلوع لم يكن يتجاوز 20 دولارًا شهريًّا، تبدأ ملامح الصورة تتضح أمامك.
هذا الإدراك، وإن كان لا يبرر الرشوة أو الابتزاز وظلم الآخرين، فإنه يفسر كيف أصبحت الإكراميات والرّشا جزءًا من الحياة اليومية في سوريا؛ ليس كوجه من أوجه الفساد الإداري فحسب، بل كضرورة فرضها واقع قاسٍ ينهشه الفقر والعوز. تدرك أيضًا كيف كان ضباط السجون يسرقون الطعام من حصص المساجين؛ جوع مادي كاسح يعكس قهرًا أكبر وأعمق.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد؛ فقد تحول معظم أولئك الضباط وعناصر الأمن إلى تجار “بزنس” خاص، يتربحون من آلام المعتقلين وذويهم. كل معلومة، كل زيارة، كل همسة أمل أو خبر عن مفقود تُباع بمبالغ طائلة، تُستخدم لسد احتياجاتهم أو إسكات بطون أطفالهم الجائعة. حتى في أقبية السجون، ووسط الظلام الدامس، كانت المعاناة تُباع وتُشترى.
يقول ابن خلدون: “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها”، عبر هذه المقولة، ربما ندرك الأسباب وراء السادية والوحشية التي مارسها هؤلاء الضباط على المساجين. كانوا هم أنفسهم ضحايا قهر آخر، يعيشون تحت وطأة القمع والاستبداد، يجرّون في داخلهم خوفًا عظيمًا لا يجرؤون على توجيهه لصاحب الجريمة الحقيقي، فتجدهم يفرغون غضبهم المكبوت على من هم أضعف منهم. تلك السادية ليست سوى انعكاس لتشوهات أُجبروا على حملها، ليصبح التعذيب وسيلتهم الوحيدة للتنفيس عن قهرهم الموروث.
إنها دائرة من القهر لا تنتهي، حيث الجلاد نفسه ضحية، لكنه اختار أن يستمرئ دوره بدلًا من أن يثور عليه. وربما رأى في الحرية تهديدًا لمصدر رزقه. حين تفهم ذلك، تدرك حجم التدمير الذي زرعه النظام في جذور المجتمع، وكيف استحال الظلم بنيةً تحتيةً، تأكل كل شيء، حتى إنسانية الإنسان نفسه.
تبخر جيش الأسد
لعل ما سبق يجيبنا أيضًا عن سؤال لطالما طُرح: أين تبخر جيش بشار؟
ولماذا ألقى جنوده أسلحتهم وفروا من ساحات القتال؟
الإجابة ببساطة تكمن في أن ولاء الجيش لم يكن يومًا حقيقيًّا للوطن، بل كان مجرد انصياع قسري تحت تهديد السلاح والقمع. الجنود لم يؤمنوا قط بجدوى الدفاع عن نظام ظالم أهدر إنسانيتهم وكرامتهم. كانوا يعرفون في أعماقهم أن حياتهم أغلى من أن تُزهق من أجل رجل هرب في الظلام، تاركًا وراءه وطنًا مدمرًا وشعبًا ممزقًا.
تهاوي الجيش لم يكن مفاجئًا، لأن النظام لم يغرس روح الانتماء بل زرع الخوف والشك، وفرض الطاعة بالقوة. وعندما سقط القناع، انهار كل شيء، فالمجبر على القتال لا يقدر على الصمود، ومن يفقد إيمانه بقضيته لا يجد دافعًا للاستمرار.
لعل أبرز القرارات التي اتخذتها السلطة المؤقتة الجديدة في سوريا هي رفع رواتب الموظفين بنسبة 400%، إضافة إلى جعل الالتحاق بالجيش أمرًا طوعيًّا، حيث يُشترط أن يكون دافع المتطوعين هو خدمة الوطن وليس الإلزام. تمثل هاتان الخطوتان استراتيجية تهدف إلى معالجة تداعيات الرواتب المنخفضة التي أسهمت في تفشي الفساد، بما في ذلك الرشوة والإكراميات.