نهاية الحروب التقليدية ومستقبل الصراعات

حاملات الطائرات الأمريكية (الفرنسية)

خلال معظم القرن العشرين، تنافست القوى الكبرى لابتكار أدوات أكثر فعالية للقهر والإكراه والتدمير. تأخذ الابتكارات العسكرية أشكالا متعددة أوضحها: المدرعات البحرية وحاملات الطائرات، والصواريخ والقذائف، والغازات السامة، والقنابل النووية، وأخيرا أسلحة الفضاء!

وفي جهودها الرامية لكسب ميزة، كرست الدول اهتماما مماثلا لعوامل أخرى كالعقيدة والتنظيم، وأنظمة التدريب، وخطط التعبئة، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وخطط الحرب.

يرى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بوسطن والكولونيل الأمريكي السابق، أندرو باسيفيتش، أن هذا النشاط المحموم، لدى مختلف القوى الكبرى، يأتي من اعتقاد شائع بمعقولية النصر. ويمكن تبسيط التقاليد الحربية الغربية في عبارة قصيرة: تظل الحرب أداة ناجعة في فن وصنعة الحكم، وتعزز إكسسوارات الحداثة فائدتها.

حروب عدمية

كانت تلك هي النظرية. لكن الواقع كان مختلفاً تماماً. فقد وصلت صراعات العصر الصناعي المسلحة لآفاق فتك وتدمير جديدة. فبمجرد اندلاعها، تلتهم الحروب كل شيء وتلحق أضرارا مادية ومعنوية هائلة؛ تتجاوز المكاسب المتحققة منها بمراحل.

هكذا، أصبحت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) رمزا ومثالا. فحتى الفائزون في الحرب صاروا خاسرين بنهاية المطاف. وبانتهاء القتال، غادر المنتصرون، لا ليحتفلوا بل ليعلنوا الحداد. بالمحصلة، اهتزت ثقة الغرب بقدرة الحرب على حل الصراعات الكبرى. في 1945، تلاشت هذه الثقة تماما لدى قوى كبرى، أصبحت بعد الحرب قوى كبرى بالاسم فقط. لكن بين دول الغرب دولتان تقاومان هذا الاتجاه:

– الولايات المتحدة، الدولة الكبرى الوحيدة المولعة بالقتال، وخرجت من الحرب العالمية الثانية أقوى وأغنى وأكثر ثقة.

– إسرائيل التي نشأت كنتيجة لتداعيات هذه الحرب.

في الخمسينيات، كانت الدولتان على قناعة بأن الأمن القومي (أو البقاء القومي) يتطلب تفوقا عسكريا لا لبس فيه. في قاموس السياسة الأمريكية والإسرائيلية، كان “السلام” مصطلحا مُشفراً. وكان الشرط الأساسي لتحقيق “السلام”، مع الخصوم حقيقيين ومحتملين، هو قبولهم بـ “الدونية” الدائمة. في هذا الشأن، كانت هاتان الدولتان، قبل أن تصبحا حليفتين حميمتين، تخالفان باقي العالم الغربي!

“داود” و”جالوت”!

لذلك، فحتى وهما تزعمان التفاني في خدمة السلام، يستحوذ هاجس الاستعداد للحرب على النخب المدنية والعسكرية بأمريكا وإسرائيل، بينما لا تجدان تناقضا بين القول والفعل.

ومع ذلك، فإن الاعتقاد بفعالية وكفاية القوة العسكرية يولد حتما الإغراء باستخدامها. إذ يسهل التحول من تحقيق “السلام بواسطة القوة” إلى تحقيق “السلام بواسطة الحرب”. استسلمت إسرائيل لهذا الإغراء في 1967. بالنسبة لإسرائيل، أثبتت حرب الأيام الستة أنها نقطة تحول. فقد انتصر، بزعمهم، “داود” الشجاع ثم تحول إلى “جالوت”. وإذ كانت الولايات المتحدة تتخبط بفيتنام، نجحت إسرائيل في السيطرة على حربها تماما.

بعد ربع قرن، تعلمت القوات الأمريكية الدرس كما يبدو. ففي 1991، أظهرت عملية عاصفة الصحراء (حرب جورج بوش الأب ضد عراق صدام حسين) أن القوات الأمريكية كالإسرائيلية تعرف كيف يمكنها تحقيق الفوز سريعا، وبثمن بخس. فقد أقنع جنرالات مثل نورمان شوارتزكوف أنفسهم أن حملة عاصفة الصحراء ضد العراق تكرر أو تضاهي مآثر ساحات معارك شنها مشاهير قادة إسرائيل مثل موشى ديان وإسحاق رابين. وتلاشت ذكرى إخفاقات فيتنام.

تعزيز الأوهام

لكن بالنسبة لإسرائيل وأمريكا، أثبتت المظاهر أنها خادعة. فبصرف النظر عن أن الحربين الناجحتين عامي 1967 و1991 قد عززتا أوهاما كبرى، إلا أنهما حسمتا القليل من الأمور. ففي كلتا الحالتين، تبين أن النصر كان ظاهرياً أكثر منه حقيقياً. والأسوأ من هذا، أن نزعة التفوق عززت سوء التقدير المستقبلي.

في الجولان وغزة والضفة الغربية، نجد أن دعاة إسرائيل الكبرى، يتعهدون بسيطرة دائمة على الأراضي المحتلة. لكن “حقائق الأمر الواقع” الناشئ على الأرض من موجات المستوطنين اليهود المتعاقبة لم تعزز أمن إسرائيل. فحقائق الأمر الواقع كبلت إسرائيل بسرعة النمو السكاني لفلسطينيين ثائرين، لا تستطيع تهدئتهم ولا استيعابهم.

بالمثل، تبين أن فوائد أمريكا بالخليج بعد حرب 1991 سريعة الزوال. فقد بقي صدام حسين في السلطة، وصار بنظر الإدارة الأمريكية التالية تهديدا وشيكا لاستقرار المنطقة. أدى هذا التصور (أو الذريعة) لإعادة توجيه جذرية لاستراتيجية واشنطن.

فلم تعد ترضى بمجرد منع القوى الخارجية المعادية من التحكم بالخليج الغني بالنفط، بل غدت تسعى لإحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الكبير بأكمله. أصبحت الهيمنة هي الهدف. لكن ثبت أن الولايات المتحدة لم تحقق نجاحا أكثر مما حققته إسرائيل في فرض إرادتها.

خلال التسعينيات، شرع البنتاغون، طوعا أو كرها، فيما صار بديلا أمريكيا معادلا للاستيطان الإسرائيلي. لكن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة بالعالم الإسلامي والقوات الأمريكية العاملة بالمنطقة لا تلاقي من الترحيب أكثر مما تلاقيه المستوطنات الإسرائيلية بالأراضي المحتلة والجيش الإسرائيلي المخصص لحماية المستوطنات.

في كلتا الحالتين، تسبب وجود القوات بإثارة المقاومة وتوفير ذريعتها. ومثلما يقاوم الفلسطينيون الصهاينة وسطهم، استهدف إسلاميون الأمريكيين ممن يعتبرونهم مستعمرين جدد..

تتمتع إسرائيل (إقليميا) وأمريكا (دوليا) بتفوق عسكري واضح. ففي محيط إسرائيل، كانت الدبابات وقاذفات الصواريخ وسلاح الجو والبوارج الحربية تؤدي دورها بفعالية. وكذلك تفعل أمثالها الأمريكية أينما أُرسلت.

قلاع ودبابات وقذائف ترادفية

لكن الأحداث تظهر باطراد أن التفوق العسكري لم يترجم لمكاسب سياسية. فبدلا من تعزيز فرص السلام، أنتج القهر والإكراه مضاعفات وتعقيدات أكثر بكثير. فمهما كان المدى الذي يصل إليه ضرب أو قتل “الإرهابيين” (أي شخص يقاوم السيطرة الإسرائيلية والأمريكية)، فهم لم يخافوا، ولم ينهزموا، بل يعودون للمزيد.

اصطدمت إسرائيل بهذه المشكلة أثناء اجتياح لبنان (1982). وواجهتها القوات الأمريكية بعد عقد أثناء “عملية استعادة الأمل”، وهي غزوة ذات عنوان رائع شنها الغرب على الصومال. للبنان جيش ضعيف، بينما ليس للصومال جيش. وباءت العمليتان بالإحباط والإحراج والفشل.

جاءت العمليتان كنذير بأن القادم أسوأ. فمع بداية الثمانينيات، كانت أيام مجد الجيش الإسرائيلي قد انتهت. وبدلا من توجيه ضربات خاطفة صاعقة في عمق العدو، غدا سرد التاريخ العسكري الإسرائيلي تسجيلا كئيبا لحروب قذرة: صراعات ومواجهات غير تقليدية ضد قوات غير نظامية تنتهي بنتائج عبثية. وجاءت الانتفاضتان الأولى والثانية، وحرب تموز، وحروب غزة بين 2008 و2023 لتؤكد هذا النمط.

منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن، تخوض إسرائيل بغزة حرباً “لا متناظرة” لم تحقق هدفا معلنا ولا نصرا مطلقاً أو محدوداً، ولم تنجز شيئا سوى الإبادة الجماعية والإدانة العالمية والانهيار الأخلاقي والصراع الداخلي.

يتساءل كثيرون عن أي فائدة سياسية أو عسكرية من إبادة استهدفت بغزة المدنيين بنحو 3300 مجزرة، وتجاوز ضحاياها 160 ألف شهيد ومفقود وجريح، وإحالة المستشفيات لمقابر جماعية وإبادة طواقمها ونزلائها، واعتقال الآلاف وقتلهم تعذيبا، وتدمير المنازل والمدارس والمرافق وآبار المياه، وقصف مراكز الإيواء بالمئات، وإحراق خيام النازحين بقاطنيها وتدنيس المقابر؟!

كثيرا ما يساء تفسير توسع نشاط القوى العظمى، كالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، عسكرياً باعتباره مؤشرا على قوة متزايدة، في حين أن هذه العسكرة والعدوانية قناع التراجع والأفول! وفي ضوء حروب أوكرانيا وغزة ولبنان والتعثر الجيوستراتيجي الأمريكي والغربي عالميا، لم يعد الغرب يبدو منتصرا.

يقول المؤرخون العسكريون إن العصور الوسطى انتهت باختراع المدافع وتطوير متفجراتها، مما ألغى قيمة القلاع الحصينة استراتيجياً ودورها في الدفاع وأحالها إلى أرشيف التاريخ العسكري والمتاحف الحربية؛ لتصبح الدبابات الفولاذية بالحروب الحديثة قلاعا صلبة متحركة.

فهل تحيل القذائف الترادفية محلية الصنع ومنخفضة التكلفة هذه القلاع الفولاذية باهظة الثمن إلى متاحف التاريخ الحربي في ضوء مجازر الدبابات الإسرائيلية بالمئات بيد المقاومين في فلسطين ولبنان؟

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان