الثورة السورية تحيي الربيع العربي
العالم يتغير بسرعة جنونية والعرب في موضع الفرجة، والفرجة أنواع تمتد من الفرح بما يجري بزعم المشاركة فيه إلى منطقة الشماتة في الذات بـ”مازوشية” مرضية.
السؤال الجارح للوعي إلى متى البقاء في وضع الفرجة؟ لقد دفعت الشعوب ثمنا باهظا لتحصيل الاستقلال عن الاحتلال المباشر، ولكن حلت في مكانه الاحتلال الغربي أنظمة فعلت بشعوبها ما لم تفعله القوى المحتلة. بقيت المنطقة في وضع العجز والتمني. تمددت إيران بمشروع فارسي شيعي في المنطقة واستعملتها لأجندتها القومية، ومن فرط عجز العرب انخرط الكثيرون في المشروع الإيراني إلى حين لحظة انكشاف سجون بشار وفظاعات نظامه، ويتقدم المشروع التركي القومي في المجال نفسه، ويستعد كثيرون للانخراط فيه، ولكن لا أحد يتكلم عن مشروع عربي، بل إن كلمة مشروع عربي صارت تحيل في أذهان الكثيرين إلى كل الخطاب القومي الفاشل الذي يلخصه في الوعي الراهن سجن صيدنايا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسالة لصديق بغزة انقطعت أخباره
الأمان المفقود في إسرائيل!
ماذا ينتظر غزة بعد وقف إطلاق النار؟
هل يمكن بعد سقوط الخطاب القومي وانكشاف جوهره أن نعيد الكلام بمشروع عربي دون أن نستعيد الأنظمة الفاشلة؟ هذا تحد منهجي لا تتضح معالمه في اللحظة العربية ما بعد نظام البعث.
إيران تعود إلى حدودها فهل يستعيد العرب بلدانهم؟
سقطت إيران في المنطقة العربية، وأنصارها الآن يكتبون آخر جمل التعزية الذاتية لتبرير انخراطهم في مشروعها. لم تؤجل إيران سقوط نظام بشار والأذرع أربعة عشر سنة فحسب، بل تسللت إلى ما أبعد من سوريا حتى صارت الحسينيات تمد رؤوسها في شمال إفريقيا، وفتحت منابر لعن الصحابة في منابر كانت تكتب نصوصا عن التحرر من بقايا الاستعمار وبناء الديمقراطية وترسيخ الحريات.
كانت فلسطين ذريعة مربكة فهي نقطة الضعف لدى الشارع العربي، وكل من تكلم بتحريرها حاز قبولا وشرعية وغفرت ذنوبه، لكننا نكتشف أنه باسم الذريعة قتل بشار مليون ونصف مليون سوري (بحسب كلام السوريين المقهورين)، والسؤال الذي قفز إلى السطح بعد إغفال أو تغاض ما صدقية القول أو ما شرعية خطاب تحرير فلسطين إذا كان ذلك يتم بقتل السوريين؟ (سيظل محفورا في تاريخ العرب أن نظاما عربيا قتل من شعبه أكثر مما قتل الكيان من الفلسطينيين هذا دون إحصاء بقية من قتلت باقي الأنظمة تحت العنوان نفسه).
من ذريعة فلسطين تسللت إيران، وها نحن نصل إلى آخر السردية الكاذبة. أن إيران تندحر وتترك فلسطين تحت الاحتلال. لا داعي للخوض في فلسفة قواعد الاشتباك فقد أودت بقائلها. بقي لنا أن نعاني أيتام بشار وأيتام إيران لفترة طويلة مثلما نعاني أيتام القذافي وعبد الناصر.
نترك للمحلين الكبار مهمة قراءة مستقبل إيران، فليس لدينا معلومات كافية عن وضعها الداخلي. نعرف أنها لم تعد تملك مواقعها التي حازتها باسم تحرير فلسطين.
تنظيف طريق الديمقراطية
انحازت إيران ضد الربيع العربي. سمعنا خطاب نصر الله الذي يرحب بالربيع في كل قُطر حتى وصل الربيع إلى سوريا، فإذا هو يجيّش فيالقه ويكسر الموجة، وتتسلل إيران إلى كل مربع وتفرض محاورها بما في ذلك هواية لعن الصحابة. الثورة السورية استعادت زخمها وانتصرت وتعيد وضع أجندة الربيع العربي على الطاولة.
الأنظمة العربية المعادية للربيع العربي التي وضعت بعض بيضها في المشروع الإيراني خسرت رهاناتها، وليس لها من مجير من شعوبها، والكرة في ملعب الشعوب، لكن أين نقطة البداية لاستئناف ديمقراطي؟
من الخارج تبدو الأنظمة مستقرة وغير قابلة للكسر، ولكن هل باطنها بقوة ظاهرها؟ نشك كثيرا في قدرة هذه الأنظمة على الصمود أمام شوارعها، لكن كيف تتحرك الشوارع الآن؟ فقد حررت سوريا القلوب، وريح نصرها تصل إلى أبعد نقطة على الخريطة العربية، فهل تعيد الشعوب العربية إطلاق مشروعها عوض أن تحول أحلامها العاجزة على كتف التركي المتقدم في المنطقة؟
الأفق هو مشروع ديمقراطي تعددي بهدف تنموي يحرر الإرادات ويقدم للناس أكثر من الخبز والأمان. غني عن القول إن السلاح في وجه الأنظمة ليس خيارا منتجا ولا أحد قادر عليه على الطريقة السورية التي اضطرت إليه من قهر.
هناك شياطين في طريق الديمقراطية عرفنا بعضها قبل الردة، وانضم إليهم الآن أيتام إيران والأذرع، كما أن نكسة الربيع قد قطعت ألسنة كثيرة فلم يعد أحد قادر على الكلام في وجه الأجهزة.
لقد تم تدمير الإسلاميين ولم يعودوا قوة في الشوارع العربية (ليس هذا موضع نقد تجربة الإسلاميين وضعف أدائهم في إدارة الثورات في بلدانهم)، وقد انكشف قبل اندحارهم أن اليسار صاحب الأفكار الكبرى ليس قوة قيادة، بل هي ملاحق للأنظمة، وفي هذه الطريق لم تتشكل قوى سياسية، ولم تبرز شخصيات تحمل مشروعا أو حتى جملا سياسية مؤثرة يتآلف حولها الناس الذين يبحثون عن قيادة. هناك ساحات فارغة بها جمهور حائر ونخب خائرة القوى مشتتة الأذهان تتمنى المعجزات ولا تقوم لشيء.
من أين إذن سيولد مشروع عربي ديمقراطي يبني على شعارات الربيع العربي ومطالبه التي ظلت معلقة مثل قنديل بلا زيت؟
حيرة هذه الأسئلة تجثم الآن على الشوارع العربية من مصر إلى المغرب. الخطاب الذي يطل برأسه من حول الثورة السورية بدأ يلغو بالأسطوانة الممجوجة: على الإسلاميين برغم انتصارهم أن يعودوا إلى الخلف، فهم متهمون بالإرهاب وعليهم تسليم مشاركتهم الفعالة في الثورة إلى اليسار وفلول البعث المجرم المقبول غربيا ليحكم دونهم. لا أحد مستعد لقبولهم وهو مرتبكون كأن نصرهم جريمة عليهم دفع ثمنها، والذي يزيد الأمر إرباكا أن إسلاميين كثر يقبلون هذا الإذلال على أنفسهم، ويمكثون في مربع طلب الرضا من الغرب الاستعماري، ونرى عليه بوادر في خطاب الإسلاميين السوريين أيضا. مع الإشارة إلى الهامش المربك الذي يعبر عنه متأسلمون لا يرون في ثورة سوريا إلا علامة من علامات الساعة وخروج السفياني والمسيخ الدجال وترهات أخرى مثل ما رأوا ذلك في حرب الطوفان، وهو ما سميته باللوثة الوهابية.
لم أجب هنا عن السؤال الأهم أين نقطة البداية لاستئناف الربيع العربي؟ كل ما أعرفه بيقين أن الشوارع العربية في قمة توترها، وأن خيبتها في الموجة الأولى من الربيع تحولت إلى محفز مكتوم ينتظر انفجارا صغيرا ليكبر، فمن يدوس على لغم الصمت المدفون في صدور كثيرة ليكون الشهيد الأول للاستئناف الديمقراطي؟