الحرية والاستبداد في “قلب الليل”

الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ (منصات التواصل)

“أنا من هزم كل الأعداء وما زلت أحيا، ومع ذلك فأنا لا أيأس أبدا، أنا القادم إليكم لينقذكم من الضياع والهلاك، نظريتي بين أيديكم فاقرأوها قبل أن يحل بكم الهلاك يا بشر”.

هذه الجملة ينهي بها جعفر الراوي بطل رواية نجيب محفوظ “قلب الليل” الفيلم السينمائي المأخوذ عن الرواية، الذي أخرجه عاطف الطيب عام 1989 بصياغة سينمائية لواحد من أهم كتّاب السيناريو والحوار في مصر محسن زايد. وفي مشهد بديع يمضي جعفر الراوي في شوارع القاهرة، وهو يهذي بتلك الكلمات ظنا منه أنه يحمل الخلاص للعالم بنظريته التي اعتكف عاما ليخرج بها إلى قادة التنوير الذي يجتمعون في منزل زوجته، بعد أن أحس بضآلة معرفته بينهم، وهم كبار قادة الفكر، طه حسين وكامل الشناوي وبيرم التونسي وسلامة موسى، وغيرهم من نجوم الثقافة والفكر في أربعينيات القرن العشرين بمصر.

الاستبداد والتمرد

مشهد نهاية “قلب الليل” يعكس بوضوح نظرية المعرفة في الحياة، فالمعرفة هي تكوين يبدأ من الصغر، ويستمر مع الإنسان ينمو مع سنواته، وكأنك تشرب بتأن كي لا تمتلئ فجأة فيطفو ماؤك مسببا خسائر. والفيلم يقع ضمن الأفلام والقصص التي كتبها نجيب محفوظ في فلسفة الحياة، وهناك أكثر من رواية فلسفية له حولتها السينما المصرية إلى أعمال فنية.

رواية “قلب الليل” حوَّلها عاطف الطيب ومحسن زايد إلى عمل سينمائي يناقش العلاقة بين الاستبداد والتمرد والمعرفة، فهذا جعفر حفيد الراوي أحد الشيوخ الكبار، والسيد الكبير كما يلقبه الجميع، الراوي الكبير يرسم لحفيده طريقا لا يريده أن يحيد عنه، يريده حافظا للقرآن ودارسا في الأزهر وصهرا لمفتي الديار، لا يريد أن  يكرر معه مأساة والده الذي سافر إلى أوروبا ليتعلم لكنه عاد منها دارسا للموسيقى، وتزوج “دلّالة” شعبية فطرده الراوي من جنته وحرمه من ميراثه، فقد تمرد على حكمته وطريقه وأفكاره، هكذا يرى الكبير أن أفكاره طريق النجاة للابن كما رآها للحفيد.

جعفر الراوي يرى في جده كارها للحرية ومستبدا بآرائه، فيتمرد عليه بداية من تمرده على تعليمه الأزهري ونهاية برفضه الزواج ممن اختارها جده، ويقع جعفر في حب راعية أغنام وبنت من الغجر الذين يعيشون حياة مناقضة لحياته، وفي الوقت ذاته يعيش جعفر حالة إعجاب بصديقه محمد شكرون الذي يعمل منشدا ومغنيا، وحين يطلب من جده أن يكون منشدا أو مطربا يجيبه الجد “كلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلقَ له، شكرون صاحب صوت عذب، وأنت صاحب ذكاء حاد في العلم”، لكن جعفر يتمرد على نظرية جده واستبداده بها، ويخرج من منزل الجد مطرودا كأبيه باحثا عن حريته في العمل والزواج، الأخطر أنه ينهي تعليمه بالأزهر ويعمل فردا في “جوقة” بفرقة صديقه شكرون.

جعفر يرى الحرية ويبحث عن نور يضيء عتمة ليله، ويشق قلب الليل بأنوار الفجر أو الصباح، وقد أجاد عاطف الطيب كعادته استخدام الإضاءة في المشاهد التي يشعر بها جعفر بالاستبداد والحرية، فكل مشاهد قصر الراوي الكبير مظلمة تماما لا تكاد ترى الوجوه إلا في مشاهد قليلة، لقطات حياته في قصر جده واسعة مظلمة أو ضيقة قابضة على عقله وقلبه، بينما حينما يلتقي حبيبته فيلقاها في أرض صحراوية تحيطها من بعيد أشجار خضراء، في تعبير داخلي عن الإحساس بحريته بعيدا عن تحكُّم جده وإجباره على طريقه دون مراعاة لأحلامه.

الطيب ومحفوظ

التقي عاطف الطيب مع روايات نجيب محفوظ مرتين، الأولى في فيلم “الحب فوق هضبة الهرم” الذي جاء ضمن 3 أفلام له بقائمة أفضل 100 فيلم مصري، وضمن 15 فيلمًا عن روايات وقصص لمحفوظ في القائمة نفسها، وقدَّم عاطف للسينما 21 فيلما بينما قدمت السينما لمحفوظ نحو 70 عملا.

من ضمن هذه الأفلام ما يمكن وضعه في قائمة أعمال محفوظ الفلسفية، وتناولت العلاقة بين المعرفة والحرية، الدين والحرية، الاستبداد والتمرد، ومنها “الشحات” و”الطريق” و”أنا حرة” و”السمان والخريف” و”السراب” و”الاختيار”. أما روايته المبدعة فلسفيا “حديث الصباح والمساء” فقد قُدمت في عمل تلفزيوني قمة التميز عام 2001، والمصادفة أن من قام بصياغة العمل تلفزيونيا كان محسن زايد الذي صاغ فيلم “قلب الليل”، أما رواية محفوظ التي عَدَّها النقاد قمة فلسفته “أولاد حارتنا” فلم يُكتب لها حتى الآن أن تُقدَّم سينمائيا أو تلفزيونيا.

الرواية الأقرب إلى “قلب الليل” من ناحية الفلسفة، حيث العلاقة الثلاثية بين العلم والدين والحرية، هي رواية “الشحاذ” أو (الشحات) بعنوانها في السينما، وهنا يتناول محفوظ فكرة البحث عن الذات بين ثلاثية الدين والعلم والحرية، وتتلاقى شخصية جعفر الراوي مع شخصية عمر الحمزاوي في البحث عن الحرية بعيدا عن التقيد الأيديولوجي أو الديني، والغريب أن محفوظ ومخرجَي الروايتين اتفقوا على النهاية نفسها تقريبا، بالوصول إلى حالة الجنون نتيجة للمعرفة المكثفة في “قلب الليل”، والمرض النفسي لبطل “الشحات” نتيجة لانفلات الحرية، فالتوازن في المعرفة والحرية يراه محفوظ حافظا من الانحراف والتطرف في الحياة.

يمكننا أن نشير إلى عاطف الطيب بوصفه واحدا من أهم مخرجي السينما المصرية في الثمانينيات والتسعينيات، وقد اقترب الطيب كثيرا من الحالة الفلسفية ولكن بطريقته الخاصة التي تقترب من الواقع أو ما يُطلَق عليه الفلسفة الواقعية، وإحساس التوازن لدى أبطال عاطف ملحوظ لمتابعي أفلامه. لم يعش الطيب طويلا، وغادر الحياة وهو في عمر الرابعة والأربعين، تاركا وراءه تراثا سينمائيا متميزا يحتاج إلى قراءات متعددة.

المعرفة والاستبداد

جعفر الراوي خرج من استبداد جده باحثا عن حرية بلا معرفة، ومريضا بحالة الانفلات بعيدا عن التحكم والسيطرة، يتوه في عوالم كثيرة لا يملك أساليب التعايش معها، فقد ترك العلم ناقصا بل معدوما بتركه دراسته الأزهرية، واجه عالم القوة مع أهل زوجته بلا قوة تحميه سواء عضلية أو علمية، ففقد ابنه وزوجته، وأصبح بلا معنى فردا في “جوقة” بفرقة صديقه شكرون، ثم ينتقل جعفر إلى منزل زوجته الجديدة هدى صديق التي تحبه، لكنه بلا مقومات تليق بها فكرا وثقافة، يقع الراوي الصغير تحت سيطرة واستبداد الزوجة التي تريده أن يكون ملائما لها، وهنا تظهر مرة أخرى إضاءة ولقطات عاطف الطيب للتعبير عن سجن جعفر في مجتمع زوجته.

يشعر جعفر بأنه ضئيل أمام معارف زوجته الذين يمثلون صفوة الفكر والثقافة، غريب ليست لديه معرفة دينية وحياتية، ولا علاقة له بالفلسفة والأيديولوجيات السياسية، بلا هواية يعيش بها، تدفعه زوجته إلى دراسة القانون، ويصاب بالغيرة من أحد معارف زوجته الاشتراكي، يحاول أن ينافسه كمحامٍ يدافع عن العمال والفقراء الذين يتظاهرون ضد الاحتلال، يزايد على صديقه بالإنفاق على ذويهم بأموال زوجته، تيه يصل به عدم المعرفة إليه، يظن أنه إذا قرأ كتبا في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والفكر فسيصبح متميزا بين معارف زوجته.

يخلو الراوي الصغير بنفسه عاما، يقرأ فيه كل أنواع المعرفة، وتصل به كمية المعارف التي دفعها إلى عقله أن يخرج بنظرية فكرية سياسية جديدة، هي خليط غير متجانس من الأفكار، امتلأ الدلو بطريقة خاطئة، وعندما ينتقده أحد الأصدقاء يقتله وهو يتهمه بالحقد والكراهية.

هكذا صار جعفر الراوي مستبدا قاتلا بالمعرفة الخاطئة الناتجة عن عناد عقلي، وتدفق معرفي في فترة قصيرة أو ما نسميه الحشو العقلي بلا تفكير، الذي ينتج تطرف العقل بالمعرفة، ويصل إلى مرحلة القتل بالمعرفة. ما عاناه جعفر الراوي من استبداد جده ومعرفته وتمرده عليه صار هو نفسه مستبدا لعدم قدرته على التوازن بين المعرفة والحياة والحرية، وهكذا دائما الاستبداد بالفكر والمعرفة وعدم قبول الآخر، ليصبح التسلط الفكري وسيلة قتل، ولا نجاة في النهاية -كما يشير محفوظ وزايد والطيب- إلا بقبول الآخر وتوازن الحياة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان