مستقبل الطغاة بعد هروب الأسد وانقلاب رئيس كوريا!
أبى عام 2024 -الذي لقب بـ”عام الانتخابات” التي أجريت بين نصف شعوب الكرة الأرضية- أن يمر دون أن يشهدنا كيف تتهاوي في لحظات، الأنظمة العسكرية كقطع الدومينو، بعد أن يظن الاستبداديون أن حصونهم مانعتهم من الانهيار، ويؤمن البعض بأن الطغاة لا يموتون إلا فوق مقاعدهم.
أشهدنا شهر ديسمبر/كانونالأول الجار تجربتين لنظامين سياسيين مختلفين. ففي أسبوع واحد سقط رئيس كوريا الجنوبية، وفشل بالهرب إلى الخارج، بينما هرب “أسد” سوريا بجرائمه. كلامهما خانا الشعب، فسقط الأول سلميًا بينما الآخر خلع بالدم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام
عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
الشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
ما جرى في كوريا، ليس درسًا في الديمقراطية استغرق ساعات فحسب، بل تجربة إنسانية يجب أن تروى عن شعب انتفض خوفًا من عودة حكم العسكر، بعد معاناة من الفوضى السياسية والحياة تحت قبضتهم القاسية والأحكام العرفية لفترة زمنية طويلة.
تحت سفح الأهرامات
ولدت كوريا بشهادة ميلاد تحت سفح أهرامات مصر، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، عقب لقاء تاريخي حضره فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحددة وونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وتشانغ كاي شيك رئيس جمهورية الصين، أسفر عن “وثيقة القاهرة” لاستقلال كوريا والصين عقب توقف الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بهزيمة ساحقة للنظام العسكري الياباني المحتل لأراضي البلدين 2 سبتمبر/أيلول 1945.
لم تكن كوريا دولة من قبل، بل مجرد شعب قديم يُتخطف من الأمم الأخرى، لذا كان من السهل تمزيقه بعد الحرب إلى قسمين، شمالي يهيمن عليه الشيوعيون الماركسيون وآخر جنوبي وضع تحت الوصاية الأمريكية، التي أدارته عبر القادة العسكريين المتحالفين مع الغرب.
عقب الحرب الأهلية التي نشبت عام 1951 -لم تتوقف للآن رسميًا بين الشمال والجنوب- شهدت كوريا تحولات واسعة على يد الجنرال بارك تشونغ هي الذي قاد انقلاب 1961، واستمر بالسلطة 20 عامًا. تحسن الاقتصاد نسبيًا، ولكن قسوة الجنرالات واقتران النمو الاقتصادي بفساد السلطة ترك نظام الحكم هشًا، فشجع العسكر على الانقضاض على السلطة كلما وجدوا لذلك سبيلًا.
لم تتحول كوريا إلى نظام ديمقراطي إلا بعد إلغاء الأحكام العرفية عام 1981. شهدت البلاد طفراتها الاقتصادية الكبرى بعد وقف تدخل العسكر بالحكم نهائيا 1987، فقفز دخل الفرد من متوسط 158 دولارًا سنويًا إلى 34 ألف دولار 2021 وفقًا لتقديرات البنك المركزي الكوري.
أصبح للشعب كلمة بصحافته واختيار نقاباته ومؤسسات المجتمع المدني ونوابه ومحاسبة رؤسائه. فحُكم عام 2018 على الرئيسة السابقة بارك غيون هاي بالسجن لمدة 24 عامًا بتهم الفساد السياسي وتلقى هدايا غير مشروعة. عندما لاحق الشعب الرئيس الحالي يون سوك يول -عبر مؤسساته الديمقراطية- بالفساد لإسرافه في الإانفاق على مكتبه الرئاسي وحصول زوجته على حقيبة ثمينة، من أحد رجال الأعمال، لم يسجلها بقائمة الهدايا العامة، التي يجب تسليمها للدولة، قاد انقلابًا على السلطة، بإعلانه الأحكام العرفية. وجه “يون” لخصومه بالبرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة الليبرالية “العمل لحساب الشيوعيين الشماليين، والتخطيط للانقلاب على الدولة”.
سقوط بسرعة البرق
جاء اتهام الرئيس الكوري للمعارضة الوطنية، على نسق التهم المعلبة التي توجهها الأنظمة العسكرية والاستبدادية لدعاة التغيير السلمي، ومن يتعرض لمنظومة الفساد ببلدانهم، وهي مطابقة لما وجه بشار الأسد وأبيه من قبله، إلى المطالبين بالإصلاح السياسي، والداعين لوقف المجازر الوحشية التي ارتكبوها منذ عام 1971 حتى سقط نظامهما بسرعة البرق يوم 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
تعمد نظام الأسد على مدى ما يزيد عن نصف قرن، من اجتثاث مؤسسات المجتمع المدني برمته، وتشكيل البرلمان من زمرة الفاسدين الطائفيين، والاستعانة بــ”أراجوزات” الإعلام” الذين لم يتورعوا عن التصفيق الطويل وتأييده بكل مرة يستخدم فيها القنابل المحرمة دوليًا لقتل مئات الآلاف بمجازر جماعية على حماة وحلب والدرعية والقرى والمدن الكبرى. استمد القتلة قوتهم من دعم العسكر والدول الراعية لإرهاب الشعب، والمؤيدة لسياساته بالمال وسياسيًا بالمحافل الدولية.
ساعد الصمت الدولي وكثير من الدعم العربي وإجادة الأسد اللعب على الحبال مع دولة الاحتلال الإسرائيلي على هروبه من المحاكمات الدولية، بتهم ارتكابه جرائم الحرب ضد مواطنيه، والبقاء بالسلطة لمدة 13 عامًا أخرى، على رأس الحكم بدولة هشة تحتل 5 دول أجزاءً واسعة من أراضيها وتهيمن على مقدراتها.
لم يهتم النظام العسكري الطائفي الفاسد بجرائم إبادة شعب فقد نصف سكانه بمجازر جماعية، وهروب الملايين في الشتات. لم يلتفت لحجم الدمار الذي ألحقه بدولة عريقة، كبلها بديون لبناء قصوره الفارهة وإدارة امبراطورية مالية لحسابه وعائلته بالخارج، وصنع الكبتاغون المدمر للشباب طلبًا للمال الحرام، بينما فقد الاقتصاد نحو 400 مليار دولار، جراء توقف النشاط النفطي والصناعي والزراعي، بما أوقع 90٪ من الشعب، تحت خطر الفقر المدقع.
الإرث الأسود
ترك الأسد إرثًا أسود، دفع ثمنه السوريون من أرواحهم التي فاضت بمئات الآلاف تحت التعذيب بالسجون، وضربات أسلحة الكيماوية وجهها لشعبه عبر 300 غارة وحشية رغم حظرها عمن يحتل أرضه بالجولان، كما ترك قروضًا فرضها عليهم باتفاقات مشينة مع الأنظمة الداعمة للاستبداد والفساد.
ستتحمل الأجيال القادمة جزءًا من هذا الإرث، وإن لم تلتزم بدفع الديون الهائلة، التي فاقت 120 مليار دولار رسميًا، فإنها مطالبة الآن بمد يدها للحصول على التمويل الأجنبي لبناء سوريا الجديدة، بقيمة قدرها خبراء ما بين 400 مليار إلى تريليون دولار، لإنقاذ الشعب من الفقر المدقع وتشغيل المرافق الحيوية، بما يضمن عودة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بالدولة وثقة المستثمرين المواطنين والأجانب في بيئة ما زالت هشة ظلت فاسدة وطاردة لفرص الاستثمار على مدى سنوات.
لن تستطيع سوريا الفكاك من إرث نظام “الأسد “الأسود بسهولة، فما زال هناك من يؤمن بأن النظام السلطوي الديكتاتوري، يمكنه أن ينهض بالبلاد عند منحه سلطة التصرف بمفرده في موارد الدولة. لم يتعظ هؤلاء بأن النظام المستقر يتوحش ويفسد من داخله ويسقط، كما سقط نظام الأسد كغيره من الأنظمة الاستبدادية، خلال أيام أمام ثورة شعبية واسعة، دون القدرة على مواجهة الثوار الذين حملوا السلاح بعد سنوات من حيلولة النظام دون قدرتهم على التغيير السلمي للسلطة.
جرائم بلا عقاب
كان طبيعيًا أن ينتهي النظام السوري المتهالك، ولكن من غير الطبيعي أن ينتهي الأمر بأن يهرب المجرم من العقاب، ويفرورموزه بثروة هائلة إلى الخارج دون مساءلة أو قصاص الشعب من جرائم ارتكبها بأيدي أنصاره على مدى 54 عامًا.
لقد فطن الكوريون لما ارتكبه رئيس الانقلاب على النظام الديمقراطي. فرغم اعتذاره للشعب عن جريمته بإعلان الأحكام العرفية وإسناده لوزير الدفاع ورئيس هيئة الشرطة، تنفيذ الأحكام لمدة لم تزد عن 6 ساعات، فإنه أُجبر على تسليم السلطة لرئيس الوزراء، وتقرر بدء محاكمته ووزير دفاعه والقيادات الداعمة له يوم 27 ديسمبر/كانون الأول الجاري بتهمة الخيانة العظمي.
سيدفع الرئيس الكوري المتهور ثمنًا غاليًا جراء انقلابه على مؤسسات ديمقراطية يحميها الشعب، بقوة أحزابه وبرلمانه ونقاباته واتحادات عماله وصحافته الحرة التي أوقفت انقلابًا عسكريًا جديدًا، كاد يدمر العملة الوطنية وأسهم الشركات، ويعيد البلاد إلى الفوضى السياسة ويزيح رابع اقتصاد في آسيا والعاشر عالميًا عن مكانته التي تبوأها بعرق المواطنين بأقل من نصف قرن، بالعيش في ظلال الديمقراطية، بعيدًا عن حكم العسكر.