من جاء بهذا التعذيب لسوريا؟
مع توالي أنباء فظائع التعذيب والمقابر الجماعية في معتقلات نظام الأسد، عثرت مؤخرا على صورة ضوئية من قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة الراحل جمال عبد الناصر بتعيين العسكري السوري عبد الحميد السراج وزير داخلية دولة الوحدة للإقليم الشمالي رئيسا للمؤسسة المصرية العامة للتأمين.
يحمل القرار رقم 425، وهو موقع بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 1967، ومنشور بالعدد 22 فبراير/شباط 1967 من الجريدة الرسمية “الوقائع المصرية”. والتاريخ الأخير يحيل إلى ذكرى وحدة “ما يغلبها غلاب”، فشلت بين مصر وسورية جراء الممارسات غير الديمقراطية والقمعية وفساد النخب العسكرية الحاكمة.
ربيع الديمقراطية السوري
قبل الوحدة
يرتبط اسم السراج عند أجيال من السوريين، وكذا اللبنانيين، بعناوين على انتهاك الآدمية وحقوق الإنسان: المكتب الثاني والمخابرات العسكرية والمخابرات والمباحث أو المباحث العامة، وبالطبع سجن المزة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsوقف إطلاق النار.. ما الذي خسره الكيان؟!
اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وحرب بلا نهاية
هل فشلت أمريكا في إدارة الأزمات؟!
وتؤرخ كتابات منشورة لنهاية حقبة من الحريات والتعددية الحزبية والنقابات والصحافة المستقلة امتدت منذ استقلال سوريا 1946 إلى إعلان دولة الوحدة الناصرية 22 فبراير 1958. وقد اعترضت تلك الحقبة أربعة أو خمسة انقلابات عسكرية أو محاولات انقلاب، لكن سرعان ما كانت البلاد تتجاوزها. وهكذا وصولا إلى ما يوصف “بربيع الديمقراطية” بين 54 و1958.
فرج الله
الحلو شهيدا
في عام 1982 انتبهت إلى اسم السراج عندما روى لي زميل صحفي بجريدة الأهالي المصرية اليسارية طرفا من قصة السكرتير العام للحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، وتعذيبه وقتله في معتقلات دولة الوحدة، ونشر الجثمان وتقطيعه وإذابته في حمض الأسيد (مياه النار عند المصريين)، ثم إلقاء ما بقي من رغوة بشرية طفت على سطح “بانيو” بمنزل أحد زبانية السراج وتابعيه في نهر بردى لإخفاء الجريمة.
وأتذكر أن الزميل، الذي لم يكن منتميا كحالي إلى عضوية حزب “التجمع” صاحب الجريدة، كان يتحدث بصوت خفيض حذرًا من أن يسمعه آخرون، إذ إن الحزب في الأصل ائتلاف لناصريين وقوميين، مع ماركسيين تحولوا إلى الدفاع عن عبد الناصر ودولته، ولو كان بينهم من قاسى سنوات القمع والتعذيب بالمعتقلات.
وقبل نحو عامين فقط، جاءني من بيروت كتاب “فرج الله الحلو شهيدا” الصادر عن دار الفارابي في فبراير/شباط 2022. ويتضمن نص الدعوى التي أقامتها أسرة الحلو (زوجته وثلاث بنات كن صغيرات) ومحاضر التحقيقات في جريمة قتله تحت التعذيب الوحشي بعد اعتقاله بدمشق في 25 يونيو/حزيران 1959، وهي في الأساس ضد السراج ومعاونيه.
أحصيت بالكتاب إفادات/ شهادات واعترافات 27 مسؤولا ونزيلا بسجن المزة، تؤكد وقوع جريمة الاعتقال والاحتجاز غير القانوني والتعذيب الوحشي بالكهرباء والكرابيج ومنع المياه بالأساليب النازية، وغيرها حتى الموت، وإخفاء الجثمان على هذا النحو الإجرامي البشع.
ويوثق الكتاب أن وفدا من شخصيات عالمية، بينها برلماني إيطالي ومحام هندي ورجل دين فرنسي وقاض برازيلي وطبيب سويدي، ذهب إلى دمشق مرتين، وطلب مقابلة المشير عبد الحكيم عامر نائب الرئيس عبد الناصر وحاكم الإقليم الشمالي وكان نائبه السراج، لاستجلاء مصير الحلو إبان اختفائه وغموض مصيره، فرفض مقابلة الوفد.
أحيلت الدعوى إلى محقق عسكري بسوريا فأصدر قراره بتاريخ 5 يوليو/تموز 1962 ليثبت ارتكاب كل هذه الجرائم الوحشية، لكنه منع محاكمة السراج بزعم “عدم توافر الدليل”، واتهم معاونيه ومن يأتمرون بأوامره وأوامرهم.
وقبل القرار وفي مايو/أيار من العام نفسه، هرّب عبد الناصر السراج من سجن المزة إلى مصر، ودعاه للإفطار معه فور وصوله، ومنحه اللجوء والحماية. وروى تفاصيل نجاح عملية التهريب المخابراتية بفخر سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر في مذكراته (سنوات وأيام مع عبد الناصر، الكتاب الرابع، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 2015، بين ص 1115 و1125).
وثائق دولة الوحدة، اختفت أو جرى إخفاؤها في سوريا، أو تم تهريبها مع عسكريين سوريين إلى مصر لتبقى طي الكتمان، كما ورد في مقال للمؤرخ سامي مبيض رئيس مجلس أمناء مؤسسة تاريخ دمشق بالأهرام في 27 يناير/كانون الثاني 2018 بعنوان: “أين ذهب أرشيف عبد الناصر السوري؟”.
ومن التضليل والسذاجة القول بأن الرئيس عبد الناصر وأركان نظامه لم يكونوا على علم بالأساليب المنهجية المتبعة في معتقلات وسجون النظام وأفعال مخابراته ومباحثه. وما جرى مع فرج الله الحلو بسوريا وافتضاح أمره عالميا، لم يمنع مقتل القيادي الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي بعد نحو عام، في 15 يونيو/حزيران 1960 تحت التعذيب بسجن الواحات في مصر.
وكلاهما، كضحايا آخرين، كانا من مناصري عبد الناصر حين أمم قناة السويس فالعدوان الثلاثي، وغير ذلك من معاركه مع الاستعمار وإجراءات العدالة الاجتماعية، ومع الوحدة العربية، لكن بالديمقراطية واحترام حريات وحقوق المواطنين. فما بالنا بمن جاهروا بالاختلاف والعداء من الاتجاهات السياسية الأخرى غير القومية أو اليسارية.
من أرشيف
الصحف اللبنانية
مطلع هذا العام، قضيت في مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت أسابيع أتتبع وأتقصى كيف عالجت الصحف اللبنانية جريمة دولة الوحدة الناصرية ضد الحلو، ومن بينها جريدة الحزب الشيوعي هناك “النداء”. ووجدتني أتنقل انطلاقا من مانشيت عدد 4 تموز/يوليو 1959: “المباحث تختطف فرج الله الحلو بدمشق وتخفيه”، إلى صفحات 1963، ومن بينها على سبيل المثال مانشيت عدد الجريدة 19 يناير/كانون الثاني 1963: “الناصرية تهيئ فتنا جديدة في سورية”.
وتبينت لي -وأنا مصري من مواليد دولة الوحدة/ الإقليم الجنوبي كما في شهادة ميلادي- خفايا عن علاقة دولة عبد الناصر بسوريا ولبنان والعراق، والمشرق العربي بالمجمل، وسياسات وممارسات باسم القومية والوحدة تلحق أبلغ الضرر بهما.
بل لاحظت الطبيعة البرغماتية لقيادة عبد الناصر في مناوراته بين موسكو وواشنطن وقوى الإقليم “محافظة” و”تقدمية”، والحملات الدعائية التي شنتها صحافته، بما في ذلك أهرام هيكل، واتهامها من صحف قومية ويسارية بالمشرق العربي وفي موسكو بالتضليل، والعمالة للمخابرات الأمريكية.
مما طالعت بأرشيفات الصحف اللبنانية، تولدت عندي أسئلة عديدة من بينها: هل خدم عبد الناصر ونظامه فعلا قومية ووحدة العرب؟ وهل أسهمت بدورها صراعات القاهرة قبل 1967 مع القوى السياسية والأنظمة المسماة بالقومية والتقدمية بالمشرق العربي في الهزيمة النكراء؟ وهل كنا سنعاني ذات الممارسات الإجرامية بالقرن الحادي والعشرين باسم “الدولة الوطنية” وشعارات تطعنها الممارسات لو جرى الكشف عن الحقائق والوثائق، والمساءلة الجادة دون مجاملات ومواءمات واصطفاف وطني وتضحية بالديمقراطية والآدمية من أجل شعارات كهذه؟
وكذا أدركت كيف جرى تدشين مرحلة جهنمية في دولة الإجرام بسوريا؟ انتقلت إلى البعث وإلى حكم أسرة الأسد تقاليدها، وتوالت على مدى 54 عاما، وعادت ليتكشف هول بشاعتها بعد فرار بشار.
تكريم السراج
في خمسينية الوحدة
في 2008 ظهر السراج (توفي في سبتمبر/أيلول 2013) أمام قبر جمال عبد الناصر بمنشية البكري في القاهرة مكرما في خمسينية الوحدة من رموز ناصرية وبدولة مبارك، فنكأ جراحا، وأثار جدلا وسخطا.
حينها ذهب ناصريون، بينهم رجال من حكم عبد الناصر وبعضهم أصبح في واجهة حركة حقوق الإنسان العربية والمصرية، في تبرير التكريم إلى الفصل بين ما قالوا عن إسهامه “المقدر” من أجل الوحدة ودولتها وبين اعترافهم بسجله الدموي “المدان”!
واليوم يعود مصريون وناصريون وقوميون، ولا أعمم فأقول كل المصريين والناصريين والقوميين، إلى الدفاع عن جرائم نظام الأسد والتغطية عليها. وهذه المرة خارج سياق “الوحدة” التي يزعمونها.
لذا تحتاج الأجيال الجديدة إلى الوعي بتاريخ ما زال مجهولا عن حقائق علاقة القاهرة المتعددة الأوجه بالمشرق العربي، وبخاصة بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وثمة مراجعات موضوعية غير دعائية مطلوبة عن حقائق “الدور المصري” الذي كان.
ما جرى لا يستحق الإنكار أو التبرير مثلما لا يزال يفعل البعض بيننا، وأفضل خدمة للاستعمار والصهيونية والرجعية ألا نتحدى الشعارات بالحقائق.