“الثلاثية المكدسة” في الصحافة المصرية!
رغم عملي في مهنة الصحافة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وفي جريدة كبيرة هي “الأهرام”، فإنني لا أستطيع أن أمتلك صحيفة أو أشارك بأي حصة في ملكيتها وفقا للقانون المصري، وإذا حدث واستخرجت رخصة لطباعة صحيفة أو مجلة، أو اشتريت حصة أو أسهما في شركة تصدر صحيفة، فإن هذا معناه أن أفقد عضويتي مباشرة في نقابة الصحفيين مهما كانت مدة خبرتي وأقدميتي حيث يحظر القانون رقم 176 لسنه 1970 على الصحفيين امتلاك صحيفة أو المساهمة في رأس مالها.
وقانون نقابة الصحفيين هو آخر قانون وقعه الرئيس جمال عبدالناصر قبل وفاته في سبتمبر/أيلول 1970، ومازالت مواده تتحدث عن الاتحاد الاشتراكي (التنظيم الذي أنشئ كظهير سياسي لعبد الناصر)، وعن وزارة الإرشاد القومي وكلاهما لم يعد له وجود خلال فترة حكم الرئيس محمد أنور السادات (1970-1981).
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتونس في عين اللامبالاة
التحالف بين الدول العربية وتركيا أصبح ضرورة
الدولة القومية والنظام الدولي.. خلفيات تاريخية ومعرفية
لم يتحمس الصحفيون المصريون للمطالبة بتغيير قانون نقابتهم في المؤتمر العام السادس الذي عقد بين 14-16 ديسمبر/كانون الثاني الجاري لانعدام يقينهم أن المنتج التشريعي النهائي الذي سيخرج من مجلس النواب -في ظل تركيبته الحالية- سيكون معبرًا عما يرغبون فيه لتعديل القانون.
ورغم بعض مواده التي تجاوزها الزمن إلا أن هذا القانون القديم اُعتبر نقلة متطورة في حينه إذ حدد فترة تولي نقيب الصحفيين موقعه بفترتين متتاليتين فقط وعدم جواز ترشحه مرة ثالثة أو أكثر إلا بعد أن يحل محله مرشح آخر، وهو الأمر الذي حافظت عليه الجماعة الصحفية حتى يومنا هذا دون أن ينعكس ذلك على الحياة السياسية في مصر أو يجد ظلا له، فكل الرؤساء وجدوا طريقا ما للاستمرار في الحكم بعد دورتين رئاسيتين حددهما الدستور، لكن ذلك لم يجد سبيلًا للتنفيذ أبدًا، وقد كان تعديل الدستور طريقا سهلًا لذلك.
سلعة الصحافة
تعاني الصحافة كصناعة من كونها سلعة باهظة التكاليف تقوم على الاستيراد. فالمكونان الرئيسيان وهما الورق والأحبار ليسا صناعة محلية وإنما سلعتان مستوردتان، وليس ثمة اهتمام حكومي بتوطين الصناعة سواء فيما يتعلق بالورق الذي يتم استيراده من دول أوروبا وآسيا والولايات المتحدة الأمريكية أو بالنسبة للأحبار التي تقوم على صناعة البتروكيماويات، ويمكن بسهولة الاستثمار فيها داخل مصر.
لا تقدم الدولة حوافز خاصة لتشجيع مجتمع الأعمال على الاستثمار في صناعة الورق والأحبار وبينما ظلت الحكومات المتعاقبة لعقود تدعم صناعة الدخان والسجائر بملايين الجنيهات سنويا، إلا أن الدعم الذي طال سلعًا متعددة لم يمر في أي وقت على الورق والأحبار.
لا تتمتع النشاطات الإعلامية أو مشروعات إنشاء الصحف والمواقع الإلكترونية بأي حوافز في النظام الضريبي المصري، ولا تحظى متطلبات الطباعة من أوراق وأحبار بأي نوع من الإعفاءات الجمركية أو تخفيض الرسوم حتى وإن كانت مستوردة لجهات حكومية.
ومن المعضلات الاقتصادية التي تطول المؤسسات الصحفية تلك الديون التي تقدر بالمليارات على المؤسسات الصحفية القومية المملوكة للدولة بصورة أو بأخرى، وذلك نتيجة تطبيق ضريبة على الإعلانات -في الماضي- مبالغ فيها قيمتها 36% مما راكم خلال عقود ديونًا فوق طاقة المؤسسات التي تضم نحو نصف الصحفيين المقيدين في النقابة، ولم تتخذ الدولة أي خطوة لإسقاط هذه الديون رغم تكفلها بمرتبات العاملين في هذه المؤسسات التي تتكبد خسائر ضخمة ولا تحقق أرباحًا تُذكر.
ولا يقتصر الأمر على المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة مباشرة ولكن تغيرًا طرأ على نمط ملكية معظم الصحف الخاصة جعلها تتركز في كيان واحد ليس هناك وضوح حول ماهيته أو شفافية بشأن ميزانيته أو مُلاكه الحقيقيين، لكن يُعتقد على نطاق واسع أنه محسوب على الدولة أو مملوك لها بطريقة ما، كما أنه لا يحقق مكاسب أيضا ما دعا القائمين عليه لإجراء تغييرات في قياداته قبل أسابيع.
ضد الدستور
تتناقض البيئة التشريعية الحاكمة للصحافة المصرية بشكل غريب، وعلى سبيل المثال فإن نصوص الدستور الذي بدأ العمل به في بداية 2015 ينص في المادة 70 على حرية إصدار الصحف، وأن يتم ذلك بالإخطار فقط، لكن القوانين المنظمة تهدر هذا الحق وتدخل به في نفق تعقيدات إدارية والتزامات مالية تجعل النص الدستوري مجرد إطار نظري منفصل عن الواقع.
التناقض الأهم الذي أصبح سيفَا مسلطًا على الأقلام هو نص الدستور في المادة 71 على عدم جواز الحبس في القضايا التي ترتكب بواسطة النشر والعلانية، عدا جريمتي التحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في الأعراض، فقد أحيلا للقانون ليحدد عقوبتهما دون التزام دستوري بأن يكون الحبس بين العقوبات التي يجب أن يقررها القانون.
وتكشف الممارسة أن عشرات المواد التي تجيز الحبس لم يتم تعديلها في القوانين المختلفة لتراعي نص الدستور وأن عشرات الصحفيين أو الممارسين للنشر تعرضوا للحبس الاحتياطي أو للحبس كعقوبة رغم تناقض ذلك مع الدستور المصري.
ويحتاج المشرعون إلى جهد غير عادي لإزالة غابة من القوانين التي تجيز الحبس في قضايا النشر وتجعل كثيرًا من الأقلام عُرضة للاتهام أو الاشتباه أو القصف عبر تقييد حرية الكاتب.
إنهم يقرؤون ولكن..!
يُتهم المصريون بأنهم لا يقرؤون بعد تراجع توزيع الصحف لمعدلات متدنية حتى لدى الجرائد التي احتفظت تقليديًا بعدد كبير نسبيًا من القراء، وبسبب انخفاض التوزيع أغلقت صحف متعددة، وخفضت أخرى عدد صفحاتها، لكن زيارة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يبدأ في 23 يناير كانون الثاني المقبل ستكشف أن الزحام على الكتب وحجم ما ينفق لشرائها يفندان هذا الاتهام، ليبدو استسهالًا في التفسير يريد الابتعاد عن السبب الحقيقي وهو أن تهافت المحتوى وعدم جودته وتشابهه وتطابقه مع المحتوى المقدم من المنافسين خلق حالة من العزوف لدى القارئ، فكيف له أن يدفع من ماله لشراء محتوى لا يلبى احتياجاته، ولا يوجد فيه فرق بين الموصوفين بأنهم يمين أو يسار أو حتى وسط.
تفسر نظرية الاستخدامات والاشباعات في الإعلام العلاقة بين القائم بالاتصال والمتلقي، وتنظر إلى المتلقي باعتباره مشاركًا ايجابيًا، ينتقي ما يلبي حاجته النفسية والاجتماعية، ووفقا لهذه النظرية فإن الوسيلة التي لا تلبي احتياجات المتلقي لن يكون مضطرًا لاستخدامها.
ولا يمكن تفسير حالة اللاتنوع في المحتوى المقدم سوى لانخفاض سقف الحرية المتاح ونزوح الصحافة المصرية نحو اتجاهين: الأول، وظيفة العلاقات العامة للدوائر الرسمية، والثاني هو صحافة الخدمات والترفيه.
المشهد
تعاني الصحافة المصرية تكالب كومات ثلاث من المعضلات المتداخلة التي تراكمت وصنعت جبالًا من المصاعب تزاحمت فوق أكتاف المهنة، لتبطئ حركتها وتطورها فتبيت عديمة التأثير أو تتسم بالمحدودية في أحسن الأحوال.
بنظرة فاحصة تبدو الصحافة المصرية في ظل انعدام السياسة حبيسة القوانين المقيدة، وتراجع الاقتصاد المضغوط، وانقراض الصحافة المشتبكة، التي تُشكل ثلاثية غير مقدسة، يمكن ملاحظتها بسهولة تطل ببلاهة، وهي مُكدسة في عناوين الصحف المكررة ومتونها عديمة الفائدة، ومحتواها منزوع المعرفة وفي البحث الموجع عن المسكوت عنه، وما لا يستطيع الصحفيون أن يكتبوه مكتفين فقط بأن يتداولوه في مجالسهم الخاصة تماما كما يفعل العوام والسمار.