الأمن القومي العربي لم يعد عربيا!!
فواصل شاسعة تضعها القيادة السياسية في دول العالم الثالث، بين أمن المنطقة ككل وأمن كل دولة على حدة، أمن الشعوب وأمن الأنظمة، أمن المواطن وأمن الرئيس، أمن القيادات العليا وأمن الرعية، أمن الأغنياء وأمن الفقراء، من السذاجة أن ننتظر سياسة خارجية تراعي صالح الوطن قبل صالح النظام الحاكم، كما من السذاجة -في ظل مثل هذه الأنظمة- أن ننشد المساواة بالداخل، بين أصحاب السلطة أو الثروة وعامة الشعب، من الكادحين والمثابرين والصابرين، على الرغم من وجود دساتير وقوانين ولوائح تنظم هذه وتلك، إلا أن التطبيق العملي أمر مختلف.
على أية حال، دعونا نراقب المشهد السوري من منظور العواصم العربية، بعد أن كشف عن أمر غاية في الخطورة، وهو أنه لم يعد مشهدًا عربيًا، بعد أن تصدرت عواصم أخرى الساحة، في مقدمتها أنقرة وواشنطن، وربما تل أبيب، خلفًا لطهران وموسكو، وربما بيونج يانج، وهو ما يؤكد استبعاد البلدان العربية الواحدة تلو الأخرى من منظومة الأمن القومي العربي، بعد التخلي عن القضية الفلسطينية كما هو واضح، ثم التغاضي عن العدوان على لبنان، وقبل ذلك السماح بتغيير البوصلة العربية في العراق، وإلى حد كبير تغيير المشهد اليمني، ناهيك من التغير المؤسف في مسار دول التطبيع.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام
عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
الشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
وربما كانت الهرولة نحو اللحاق بالكيان الصهيوني، مؤشرًا واضحًا على ذلك التحول في منظومة الأمن القومي العربي، من تكتل تمثله جامعة الدول العربية، لما فيه أمن الشعوب ومصلحتها، إلى إقرار بما هو جديد ومؤلم، وهو أمن الأنظمة ومصلحتها، الذي يعتمد في استقراره على مباركة الكيان بالدرجة الأولى، مرورًا بواشنطن، وينتهي إليهما أيضًا، دون حتى المرور على الجغرافيا العربية، وهو ما جعل من استقرار كل من فلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن، وربما الدول العربية كلها، أمرًا ثانويًا للمنظومة العربية، ما دامت العلاقات مستقرة مع الكيان، ومن يدعم الكيان.
الانقسام العربي واضح
13 عامًا مضى على التوتر في سوريا، الذي بلغ حد الحرب، في المواجهة بين المعارضة والنظام هناك، لم يحاول التكتل العربي، ممثلا في الجامعة العربية، التدخل لما فيه مصلحة الأمن القومي العربي، كما لم تحاول أي من العواصم العربية منفردة، القيام بدور في هذا الشأن، وهو ما جعل من الأراضي السورية مرتعًا لعدد من الجيوش الأجنبية، وساحة للاعتداءات الصهيونية المتكررة، إلى أن انقلب المشهد بالإطاحة بالنظام، من خلال تدخلات أجنبية أيضًا، لم يكن للعرب بشكل عام، أو حتى عرب دول الجوار شأن فيها، بما يؤكد انزواء كل نظام بنفسه، ما دام كان بمنأى عن الخطر، أو على الأقل يرى ذلك.
حدث ما حدث في سوريا، وتمر الأيام تلو الأخرى، إلا أن العواصم العربية ما زالت مترددة في التعامل مع الأحداث، أو مع الأوضاع الجديدة هناك، البعض رأى في التطورات الأخيرة مصلحة ذاتية، فبادر بالإقرار بالأمر الواقع، البعض الآخر تقدم خطوة على استحياء، البعض الثالث ما زال مترددًا، إن لم يكن تراجع خطوة للخلف، من خلال انتقاد التطورات إعلاميًا، نتيجة مخاوف ذاتية أيضًا، بما يشير إلى انقسام عربي واضح في أدق مجريات المشهد السياسي بالمنطقة، وفي أهم مفاصل الأمن القومي الحالي والمستقبلي، وهو ما يوضح سر ذلك الصمت على العدوان الصهيوني على الأراضي السورية، الذي بلغ حد احتلال أراضٍ أخرى، بخلاف هضبة الجولان المحتلة منذ عام 1967.
أعتقد أننا في حل من التأكيد أن الشعب السوري حر في اختيار من يحكمه، كما هو حر في تحديد مستقبله، كما في تحديد أيديولوجياته، ذلك أننا أمام شعب يمثل أقدم الحضارات على الإطلاق، شعب مارس السياسة، وبرع في الاقتصاد، وتفوق في التجارة، ونشط في التعليم، وأسهم من خلال ثروته البشرية في بناء كثير من المجتمعات الناشئة من حولنا، وهو ما ينفي حاجته للوصاية، أو إمكانية قبوله بها، أيًا كان مصدرها، وأيًا كانت أهدافها، وهو الأمر الذي كان يجب معه الإسراع بمساعدته على لم الشمل والنهوض والاستقرار، ذلك أن الشواهد تؤكد أن التحديات كبيرة وخطرة، إلى الحد الذي ينذر بتقسيم جغرافي، طائفي وعرقي، المنطقة في غنى عنه، بل قد لا تتحمل تبعاته.
التحديات أصبحت وجودية
وفي هذا الصدد، يجب التأكيد أنه من الخطأ أن يعتقد أي قُطر في المنطقة، أنه بمنأى عن تطورات الأحداث في قُطر آخر، أو أنه بمنأى عن مخططات الكيان الصهيوني للمنطقة ككل، أو أنه بمعزل عن شيطنة الإدارة الأمريكية الجديدة للعالم العربي تحديدًا، وهو ما كان يوجب انعقاد قمة عربية فورية، تبحث كيفية التعامل مع الأوضاع في المنطقة، في ضوء تطورات الوضع في الدولة السورية، بما يحقق تطلعات الشعب هناك، وبما يؤكد وحدة الأراضي السورية أولًا وأخيرًا، مع تأكيد أهمية الانسحاب الإسرائيلي من الجولان المحتل، ورفض أي تدخل أجنبي في الشأن السوري.
بالتأكيد نحن أمام مرحلة فاصلة في تاريخ الأمة العربية بشكل عام، وقد تكون التحديات وجودية تتطلب الانحياز للوطن قبل النظام، وللوحدة العربية قبل الدولة القُطرية، وللمستقبل قبل المصلحة الآنية، ذلك أن قراءة التاريخ تؤكد هزيمة الشاردين، أو حتى المتكئين على ذوي المآرب والمصالح، وإلا فلنا العبرة في النظام السوري المخلوع، وكيف انفض عنه هؤلاء وأولئك في لحظة حاسمة دون أدنى خشية، أو انزعاج من فقدان مصالح استراتيجية أنفقوا عليها الكثير من الجهد والمال، بل كثير من الدماء والأرواح، وهو ما يؤكد أن الانهيارات المتعلقة بالمصالح التقليدية، حتمية في نهاية الأمر.
من هنا، كان يجب أن نعي، أن العلاقات العربية-العربية، تحكمها روابط مختلفة تمامًا، تتعلق بمواثيق غليظة عربية وإسلامية وتاريخية وثقافية ولغوية، مصير واحد، عدو واحد، أهداف مشتركة، وهو ما قد يغيب أحيانًا عن أذهان بعض القيادات هنا أو هناك، ربما لجهل بالتاريخ والجغرافيا معًا، ربما لتقديم المصلحة الشخصية المتعلقة بالاستمرار في السلطة، ربما لضغوط خارجية، إلا أن ذلك كله يتبخر سريعًا، من خلال إرادة الشعوب، التي لن تقبل محو ذاكرتها الوطنية، بجرة قلم، نتيجة غباء حاكم، أو ربما ألاعيب سلطة هشة، لم تتعلم من دروس الماضي، وهو ما يدعونا إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بدلًا من اعتياد حالة الانزواء، التي لا تمثل حماية على المدى البعيد.