خليفة محمود عباس

الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن (الفرنسية)

التقيت السيد روحي فتوح إبان كان عضوا باللجنة المركزية لحركة فتح في تونس، وحاورته ونشرت تصريحات له بالأهرام في 12 ديسمبر/كانون الأول 2017. وجاءت تحت عنوان: “نتمسك بالمقاومة الشعبية السلمية ونحذر من العودة للسلاح”.

كلام الرجل عن نبذ حق المقاومة المسلحة ضد الاحتلال كاشف. وكان هو الأهم من وجهة نظري بوصفي صحفيا، منذ نحو سبع سنوات. وجاء في سياق قرار الرئيس الأمريكي رونالد ترامب حينها، العائد إلى البيت الأبيض مطلع العام المقبل 2025، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشرقية المحتلة، واعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني/ إسرائيل.

وكان صديق فلسطيني يقيم بتونس بعد خروج المقاومة من بيروت 1982 قد نبهني إلى كون الرجل من المجموعة المحيطة برئيس السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس، المقربة منه وداخل صفوف الحركة، التي كانت تتصدر النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال منذ منتصف الستينيات.

نصف جلي

نصف خفي

لم يكن فتوح بين الصفوف الأولى لقيادات فلسطينية التقيتها خلال رحلتي المهنية مهتما بالقضية الفلسطينية، وبخاصة خلال أيام انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني بالجزائر 1987. ولا أتذكر هل كان بين وفد حوارات فتح/ السلطة الفلسطينية المبكرة مع فصيلي الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية بالقاهرة الذي التقيته بين عامي 1999 و2000، وقبيل اندلاع انتفاضة الأقصى.

لكن اسمه ظهر عام 2004 مع رحيل الزعيم ياسر عرفات، أو بالأحرى اغتياله، رئيسا مؤقتا للسلطة الفلسطينية بوصفه رئيسا لمجلسها التشريعي إلى حين انتخاب محمود عباس على رأس السلطة في يناير/كانون الأول 2005. والأخير يحتفظ بالمنصب إلى اليوم دون خوض أي انتخابات تالية، مع “كبشة” مناصب قيادية، من بينها: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس حركة فتح، ورئيس دولة فلسطين.

فتوح (75 عاما) هذا الرجل نصف الجلي نصف الخفي، بدا قبل عشرين عاما وكأنه لا طموح له ولا شعبية تخيف خليفة عرفات المعتمد “أبو مازن”، فشغل على هذا النحو مؤقتا منصب “الريس”.

عودة تثير

احتمالات عديدة

لكن عودة اسمه هذه المرة تبدو مثيرة لاحتمالات عديدة حين يصبح مرشحا للموقع ذاته في حال غياب عباس، البالغ نحو تسعين عاما، بالوفاة أو العجز عن أداء مهامه، ولفترة انتقالية تبلغ 90 يوما قابلة للتجديد لأيام مماثلة إلى حين إجراء انتخابات تبدو غير متصورة أو ممكنة.

وهذا هو ما نص عليه “إعلان دستوري” صادر من عباس في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2024، مخالفًا بذلك نص القانون الأساسي الفلسطيني الذي ينيط هذا المنصب المؤقت برئيس المجلس التشريعي الأسير عزيز الدويك (من حماس)، وليس برئيس المجلس الوطني الفلسطيني (بمثابة برلمان عموم الشعب بالداخل المحتل والخارج)، الذي أصبح، وبخاصة بعد أوسلو، فاقد الصلاحيات ولا يكتمل اجتماعه على نحو صحيح وديمقراطي مؤسسي.

من جانب، يبدو عباس وكأنه يخفف عنه ما تردد عن مطالبات وضغوط أمريكية خليجية لاختيار نائب له تحسبا لفراغ غياب رجل طاعن في السن.

ومن جانب آخر، وكأن الخطوة تؤجل احتدام ما يتردد عن صراع بين قيادات حركة فتح على خلافة عباس في مناصبه الرئاسية المتعددة المركبة.

ومن جانب ثالث، يبدو هذا الإعلان كأنه يحاول سد الطريق على فتحيّين، ومعهم جمهور فلسطيني وازن، يراهن على الأسير الفتحي منذ 2002 مروان البرغوثي، وما يرمز إليه من إرث انتفاضة 2000 و2005، وخياره المقاوم، وكتائب الأقصى الجناح المسلح لفتح حين كانت في أوج نشاطها.

ولعله من المفيد أن نرى كيف ترى صحف إسرائيلية مكانة فتوح؟ فعند توليه رئاسة المجلس الوطني 2022 وصفه جاك خوري المحلل بهآرتس بأنه يفتقد إلى النفوذ السياسي والقدرة على الحكم بالفعل إذا قورن بخلفاء آخرين محتملين لعباس. أما يديعوت أحرونوت فنقلت يوم 29 نوفمبر الماضي عن موريس هيرش مدير مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية أنه لا يتمتع بتأييد الشعب الفلسطيني، ومع هذا قد يتولى الرئاسة لمدة بلا نهاية منظورة حين يغيب أبو مازن.

عطفا على ما سبق، فإن فتوح اليوم بمثابة رسالة توكيد على الخيار المعاكس للبرغوثي، يقرؤها حلفاء بالإقليم وخارجه، كما تفصح عنها كلمات الرجل نفسه في بداية هذا المقال. وهذا على خلاف ماضيه الشخصي حين التحق بفتح ومنظمة التحرير من بوابة مقاتلي “العاصفة”/ الكفاح المسلح.

عن أزمة

القيادة الفلسطينية

أزمة القيادة الفلسطينية المتخلفة عن مرحلتي النضال الوطني ثم مسار أوسلو/ سلطة الحكم الذاتي، وإن كانت ما زالت محل الاعتراف الدولي، متعددة الأبعاد.

ثمة أولا شيخوخة القيادة، مع مفارقة كون غالبية أبناء الشعب الفلسطيني من الشباب. ويكفي أن نحقق أعمار أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الحالية برئاسة عباس، لنتبين أن 5 فقط من بين 16 عضوا تحت سبعين سنة، بينهم واحد فقط تحت ستين. هذا بينما لا يتجاوز نسبة من هم فوق الستين بالمجتمع الفلسطيني بالضفة وغزة والقدس ستة في المئة.

ثانيا، اختصار مؤسسات المنظمة وفتح والسلطة الفلسطينية في أشخاص مطلقي السلطات واسعي النفوذ لا يبقون إلى جانبهم وفي الطريق إلى المواقع العليا إلا من يطيع ولا يصارح ولا ينتقد، ولا يدين إلا بالولاء الشخصي، وفوق القضية والناس. وكيف جرى تعطيل المؤسسات، فأصبحت تنعقد إلا صوريا.

هذا فضلا عن منعها لعقود إلى اليوم من ترجمة التحولات في واقع النضال الفلسطيني عسكريا وسياسيا وبين الفلسطينيين فوق أرضهم والشتات، والإخفاق في ضم وإدماج حركات أصبحت تتصدر العمل الفلسطيني السياسي والنضالي المقاوم كحماس في المنظمة وقيادتها.

ثالثا، تأثير ونفوذ أعداء استقلال فلسطين واستعادة حقوق شعبها في الداخل والمهاجر، إسرائيليا وأمريكيا وعربيا، على قرار فتح والمنظمة والسلطة واختيار قياداتها.

ورابعا، مفعول الفساد، وهو بدوره محصلة منطقية للعوامل السابقة، ولإرادة القوى الداخلية والإقليمية والدولية التي تحميه، وتحتاج إليه، وترعاه عبر شبكات مصالح، للتحكم في القيادة الفلسطينية.

يفتخرون بمحاكاة

البيروقراطية المصرية

قبل نحو ربع قرن، كان المتابع المهموم بالشأن الفلسطيني على وعي بمدى الفساد الذي ضرب صفوف فتح والمنظمة، وبخاصة بين قياداتها العليا، ومنذ عهد الزعيم الشهيد عرفات رحمه الله. وعلى الأقل تابعنا أنباء الفضائح التي فاحت، قبل رحيله، من الصندوق القومي الفلسطيني (بيت مال المنظمة). وأتذكر أنني كتبت عنها، لكن بالطبع خارج الأهرام. ثم توالت الفضائح المعلنة لاحقا.

وعندما كنت في احتفالية أقامها الأهرام بمقره في القاهرة بعد مرور عام من وفاة المفكر والكتاب لطفي الخولي الوثيق الصلة بقيادة فتح والمنظمة والسلطة الفلسطينية، دعت المؤسسة الصحفية المصرية إليها شخصيات قيادية بالسلطة الفلسطينية وبالحركة، وقف واحد منهم ليجامل مسؤولين مصريين حضورا منوها إلى أن هذه السلطة نقلت إلى الضفة وغزة تقاليد البيروقراطية المصرية.

لم يقل صراحة بؤس ومحافظة وترهل ولامبالاة وفساد هذه البيروقراطية ومخاصمتها لمواطنيها وعرقلتها للإصلاح والتغيير، إلا أن الحضور لا شك كانوا على بينة بالحال، وبأنها ليست كفؤة وطاهرة الذيل.

 

*

يقف أهل فتح الأكثر شعبية ومصداقية وإخلاصا لماضيها النضالي وتضحياتها خارج الدوائر النافذة المؤثرة في القيادة الفلسطينية، كما هي حال البرغوثي في رمزيته. وهو مستهدف من الاحتلال بالتنكيل ومعها القيادة الرسمية الفلسطينية بالاستبعاد والتغييب. بينما يبرز نموذج شهيد حماس والمقاومة الفلسطينية وأحرار العالم والإنسانية يحيى السنوار، الذي تحول بدوره إلى رمز لفلسطين وشعبها ونضاليته وتضحياته.

وفي هذه المفارقة/ التناقض جوهر مأزق القيادة الفلسطينية عضو النظام الرسمي العربي المعترف بها من دول الإقليم والعالم. ولذا من غير المستغرب أن يتحول هذا التناقض واتساعه مع هجوم طوفان الأقصى وحرب الإبادة إلى “انشقاق كبير” بتاريخ فلسطين في المرحلة الراهنة.

ولذا فالمسافة تتسع بين هذه القيادة “الرسمية السلطوية” وبين اعتماد الديمقراطية والمؤسسية لاتخاذ القرار، وتباعد بينها وبين غالبية الفلسطينيين وآلية الانتخابات الحرة النزيهة لتداول المسؤولية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان