أين يذهب الفلسطيني هربًا من رصاص العدو والشقيق؟

الصحفية شذى الصباغ (وسائل التواصل)

مأساة مخيم جنين تفصح عن ملامح المأساة القبيحة، فقوات أمن السلطة الفلسطينية، تشن حربًا موازية على المقاومة، والذريعة لا تختلف عن ذريعة نتنياهو وحكومته الإرهابية؛ استئصال الخطر الذي يهدد الأمن والأمان، والقضاء على من تصفهم بـ”الخارجين عن القانون”.

منذ سحب منظمة التحرير الفلسطينية إلى مفاوضات مدريد قبل أكثر من ثلاثة عقود، ثم سقوطها في مصيدة أوسلو، وصولًا إلى اتفاق “غزة وأريحا” بعد ذلك، دأبت فصائل المقاومة على لوم السلطة الوطنية لكونها خلعت عباءة النضال فتحوَّلت إلى شرطي إسرائيلي، يأتمر بأوامر تل أبيب، وينفذ سياساتها الباطشة ضد الشعب الفلسطيني، وهو الاتهام الذي طالما اعتبرته “فتح” مزايدة في غير محلها، حتى جاءت لحظة طوفان الأقصى، التي فرّقت بين الحق والباطل، فإذا بمحمود عباس يصطف إلى جوار العدو ضد شعبه، ليرفع عن المقاومة مشقة تأكيد انتقادها، عبر تأكيدات أجهزته الأمنية المتكررة لها.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

واللافت في الحرب التي يشنها رجال أمن عباس، على الفلسطينيين في مخيم جنين، أنها تقتفي جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي بحذافيرها، فإذا بالرصاص لا يستهدف صدور المقاومين فحسب، وإنما يستهدف الفلسطينيين بالجملة، ويخترق كذلك صدور الصحفيين، بغية منع افتضاح الحقيقة المُرَّة.

شذى “اتصفى دمها”

قبيل كتابة هذه السطور بدقائق، اتهمت والدة الصحفية الشهيدة شذى صبَّاغ أجهزة الأمن الفلسطينية باغتيال ابنتها، برصاص قنَّاص من “أمن السلطة”، وقالت في مقابلة عبر شاشة “الجزيرة مباشر”: “شذى اتصفى دمها قدام عيني، مخها بالكامل أمامي وأنا أشاهدها ومش قادرة أساعدها”.

في المقابلة ذاتها رفض الناطق الرسمي لقوى الأمن الفلسطينية العميد أنور رجب الاتهامات، ثم لملم أوراقه لينسحب من الاستوديو، مستنكرًا وجود والدة الشهيدة معه.

لا تفسير منطقيًا لانسحاب المسؤول الأمني الفلسطيني، إلا أنه يخشى المواجهة، ويتحاشى الوقوف أمام الضحية.

والمثير أن هذا الانسحاب يشبه إلى حد كبير -إن مددنا الخط على استقامته- انسحاب حركة “فتح” إجمالًا من القضية الفلسطينية، واختيارها بمحض إرادتها النكوص عن مرجعياتها الفكرية النضالية، لتغدو فصيلًا سياسيًا مُدجَّنًا مُستأنسًا وربما “متصهينًا”، لا يختلف عن غيره من عواصم “الاتفاقيات الإبراهيمية” العربية، التي تُجنجل كالدراويش على “رِجل واحدة” في قاعات الدنس الصهيونية.

منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية غير المسبوقة على قطاع غزة، لا نكاد نسمع لمحمود عباس صوتًا، ولا نجد له ذكرًا، أو نحس له ركزًا، اللهم إلا حين ينطق بتأثيم المقاومة التي يتهمها ضمنيًا ومباشرةً بأنها عمدت إلى استفزاز العدو، وفتحت الباب على مصراعيه أمامه لتدمير غزة عن بكرة أبيها.

في الخطاب استعارة واضحة لفحوى بيانات المتحدث باسم جيش الاحتلال، وفيه تبرير فظ وغير عقلاني -ولو باعتبارات البرغماتية- للعدوان الإجرامي على الشعب الفلسطيني، وفيه من قبل ومن بعد، درجة غير مفهومة من الانبطاح الذليل أمام عجرفة الحكومة اليمينية الإسرائيلية.

والغريب أن هجمات الأمن الفلسطيني على مخيم جنين، تأتي متزامنةً مع همهمات سياسية متواترة، عن اقتراب المفاوضات إلى اتفاق لوقف الحرب على غزة، وذلك في الوقت الذي يبدو فيه مجرم الحرب نتنياهو عاجزًا عن مواصلة مراوغاته الزئبقية المعهودة، نظرًا لضغوط الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب، الذي يبدو أنه يريد تهدئة بؤرة الصراع في المنطقة، تمهيدًا لصفقات ما يطمح في إنجازها، متى يدخل مكتبه البيضاوي، في العشرين من يناير/ كانون الثاني.

تبادل أدوار لإحباط الهدنة

كأن عباس هنا يتبادل الأدوار، أو يلعب لعبة الكراسي الموسيقية مع نتنياهو، عبر التكفل بقطع الطريق على أي مبادرة تحقق وقفًا للعدوان، بما يُمكن أن يرحم الشعب الفلسطيني.

ليس سرًا أن سبب عرقلة عباس الهدنة، التي طرحتها مبادرة القاهرة مؤخرًا، بحضور ممثلي الفصائل ووفد من فتح، يرجع إلى أنه يرفض أي وجود لحركة “حماس” في اليوم التالي للحرب، وهو بذلك يتماهى مجددًا مع الخطاب الإسرائيلي الذي شاع منذ بداية حرب الإبادة، وذهب إلى أنه من المستحيل وقف إطلاق النار، إلا بعد الإجهاز على “حماس”.

وإذا كان العدو الصهيوني قد تخلى عن هذا المطلب، بعدما ثبت له عمليًا استحالة تحقيقه، نظرًا لتشابكات الموقف المعقدة على الأرض، وتحديدًا لوجود حاضنة شعبية مؤيدة للمقاومة في القطاع، فإن عباس لم يتنازل عن ذلك.

شلال الدماء المراقة، وحرب التجويع التي يصطلي الفلسطينيون نيرانها، لم تحرك ذرةً في قلب عباس، فالرجل لا يطيق وجود “حماس”، وإن كان ذلك على حساب استمرار مأساة شعبه إلى أمد غير معلوم.

يتنافس عباس ونتنياهو حاليًا في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، إلى درجة أن كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي قدمت أدلة “صوتًا وصورة” على استخدام رجال الأمن الفلسطيني قذائف “آر بي جي” المضادة للدبابات في عملياتها بمخيم جنين.

المتحدث باسم كتيبة جنين أحمد أبو عميرة، كان خاطب الرئيس الفلسطيني في فيديو قائلًا: “وصلت فينا إلى هون.. نضرب على بعض صواريخ”، وهو يحمل بقايا القذائف الفلسطينية على الفلسطينيين.

مؤسف حقًا أن يصل الفلسطينيون تحت الاحتلال إلى “هون”، في هذا الزمن العبري الذي تلتبس فيه المفاهيم، وتتداخل المعاني بحيث لا تصبح الحدود واضحة بين الحق والباطل.

يبدو أن الفرق بين عباس ونتنياهو في حربهما الضارية على الشعب الفلسطيني، لا يزيد عن الفرق في الإمكانيات القتالية، وأغلب الظن أن عباس كان يتمنى في قرارة نفسه، أن يمتلك أسلحة دمار شامل، وقنابل محرمة دوليًا، كما يمتلك جيش العدو الإسرائيلي، ليس للرد على استهداف غزة، أو تحريك رجال أمنه الذين يبلغ قوامهم 45 ألفًا، للدفاع عن مدن الضفة ومخيماتها، في وجه عمليات التوغل الإسرائيلية المتكررة، وإنما للإمعان في حربه ضد معارضيه من المقاومين المرابطين، ممن تساوره المخاوف وتداهمه الكوابيس بأنهم سينازعوه كرسي السلطة، الذي يجلس عليه منذ رحيل عرفات، من دون أن “يهش ولا ينش”، كما يقول المصريون.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان