صناعة القرار العربي.. استدعاء جمال حمدان
تعيش المنطقة العربية في أجواء سياسية واقتصادية عاتية، بين حروب صاعقة، وصراعات ملتهبة، ورياح عاصفة تأتي عكس ما تشتهي السفن العربية، يواكب ذلك شلل رسمي وعجز شعبي، وتخبط سياسي، وقيادات تائهة على أرض متحركة لا تملك سوى رؤية ضبابية قاصرة للمستقبل القريب.
ربما يكون أكثر ما تحتاج إليه دول الوطن العربي الآن في ظل تلك الأجواء المظلمة الرعدية هو الاهتداء بآراء الخبراء، والاستعانة بالكفاءات النادرة، عبر تشكيل مراكز لصناعة القرار، مع وضع الآليات المناسبة لعملها، حتى تصدر القرارات بشكل مؤسسي بعد الدراسة العميقة، والنظرة الشاملة والبحث والتمحيص وتقييم البدائل وتحليل الخيارات، ورصد السلبيات والإيجابيات، والتوصية بخطوات عملية للتنفيذ.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام
عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
الشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
ولن يحدث ذلك إلا بعيدًا عن جيوش الموظفين، وجحافل المطيعين، وبطانات المتملقين، فلا يمكن حل الأزمات بنفس العقلية التي أوجدتها، فالحكمة لا تكمن في عدد الرؤوس، بل في جودة العقول.
صلاحية تغيير الدفة
صحيح أن هناك مقولة تتحدث عن أهمية دور الخبراء في صنع القرار السياسي وهي أن “الشعب يحكم لكن الحكماء يحكمون الشعب”، لكن المؤسف لدينا هو أنه لا شعب يحكم ولا حكماء يحكمون الشعب.
ونحن هنا لا نطلب اللجوء إلى الديمقراطية وآلياتها بوصفها خيارًا للتداول السياسي والتغيير فهذا أمر أمده طويل، ولا نية واضحة في الأفق لتحقيقه، ولكن المطلوب فقط على وجه السرعة هو الاستعانة بأهل الكفاءة على حساب أهل الثقة في مراكز صنع قرار حقيقية تمتلك صلاحية تغيير دفة السياسات للوصول بالأوطان إلى بر الأمان.
ما أحوجنا الآن إلى “خزانات تفكير” تعمل على صنع القرارات المهمة في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضًا في قضايا الأمن القومي، وذلك بعيدًا عن العشوائية، والارتجال، وغياب التخطيط والتقييم المنطقي.
وتلك الآفة التي تعاني منها منطقتنا العربية ليست وليدة اليوم فقد تعجب منها توفيق الحكيم قبل أكثر من سبعين عامًا في كتابه “عصا الحكيم” فقال: “يخيل إليّ أن في مصر خبيرا عبقريا مهمته الدقيقة هي أن يضع كل شيء في غير محله”.
مطاردة النوابغ
كان الدكتور جمال حمدان المفكر الاستراتيجي والكاتب الموسوعي والجغرافي النابغة، هو أول من قفز إلى ذهني عند التفكير في قضية إقصاء أصحاب الكفاءات النادرة من هيئات الاستشارة ومراكز صنع القرار، بل تهجيرهم من الجهات والمراكز الرسمية والأجهزة والمرافق الحكومية بشكل عام.
يكفي أن تعرف أن ذلك الشاب العبقري الحاصل على الدكتوراه من إنجلترا في سن مبكرة، الذي قرر الاستقالة من الجامعة والاعتكاف، هو نفسه من قال عنه أخوه الدكتور عبد الحميد حمدان: كان متحمسًا لخدمة مصر في المكان المناسب الذي يستطيع من خلاله أن يحقق لها الرفعة والتقدم.. فقد أخبره مثلًا: أنهم وزعوا عليه وعلى زملائه في الجامعة استبيانًا فيه سؤال عن الوظيفة التي يرغب في شغلها والتي يستطيع في إطارها خدمة وطنه، فكانت إجابته عن هذا السؤال هي: وزير الشؤون البلدية والقروية وكانت قائمة في ذلك الوقت.
ولما أعرب له عن دهشته لاختيار هذه الوزارة، وأن يكون وزيرا مرة واحدة، قال:
يا عزيزي! إن من يتولى هذه الوزارة يملك في يده نهضة مصر، أو تخلفها! وعدّد له مزايا وفوائد هذه الوزارة ومهامها، وقال إن الشؤون البلدية هي البنية الأساسية التي بدونها لا تستقيم حياة الناس في المدن، وإن الشؤون القروية هي العمود الفقري الذي بدونه يُقصَم ظهر مصر!
ويمكنك عند تصفح أوراق ووثائق ورسائل الراحل جمال حمدان أن ترى حجم الاحتفاء والتقدير والتأثير والانتشار من قبل القراء ودور النشر والصحف والمؤسسات الثقافية في مصر والوطن العربي، إلا أن ذلك جاء بعد عقود من العزلة والاعتكاف والإبداع، كما أن الأمر لم يترجم بالدعوة إلى المشاركة الفعلية في مراكز صنع القرار، أو حتى بتطبيق ما طرحه الرجل من نظريات وأفكار وأطروحات.
وربما كان الإقصاء والشعور بالمرارة سببًا في أن يرفض الرجل جائزة الدولة التقديرية، ووسام الجمهورية وهو الذي احتفى بالجائزة التشجيعية من قبلُ.
الاختلالات السياسية
ويوضح الدكتور عبد الحميد حمدان تفاصيل ما حدث قائلًا: “أحس أخي بآثار الاختلالات السياسية والاجتماعية والثقافية التي هزت البلاد. وظهر له أن النظام السياسي للثورة لم يكن محوره سوى مركزية شديدة للسلطة مع هيمنة كاملة للمؤسسة العسكرية، اختلطت فيها العلاقات الشخصية (أهل الثقة) بالعلاقات السياسية، مع سيطرة “الشلل” وتراجع الضمانات الديمقراطية الحقة وكان موقنا بأن أي جهاز للحكم إذا ما استحوذ على السلطة بلا حدود، فإنه يستطيع أن يرفع إنسانا ويخفض إنسانا آخر بلا قواعد أو أسس سوى الولاء للنظام، وبذلك تنتفي المعايير الموضوعية المتصلة بالكفاءة أو النبوغ، وهي كل ما كان يملكه جمال حمدان!”.
واستمرت المعاناة مع الجهات الرسمية خاصة بعد رفضه علنًا أثناء محاضراته توقيع مصر معاهدة استقلال السودان، وترتب على ذلك كما يقول أخوه: “رفضه رفضا باتًّا أن يكون ذيلًا لأي من أعضاء هذه المؤسسة العسكرية، ولم يقبل ما عرض عليه ليكون مستشارًا للمؤتمر الإسلامي الذي تأسس في ذلك الوقت”.
لكن الأمور ساءت أكثر في قسم الجغرافيا بكلية الآداب فتربصوا به الدوائر، ولم يقتصر الحال على تخطيه في الترقية، بل وصل الأمر إلى حد حرمانه من تدريس مادته المفضلة وهي “جغرافية المدن”، وتكليفه بتدريس مادة الخرائط لطلبة السنة الأولى، التي عادة ما كان يقوم بها المعيدون!
الانسحاب من الميدان
وكأن مقولة عبد الرحمن الخميسي: “كيف أعزف على قيثارتي وأنا مشغول بالدفاع عنها”، كانت لسان حال الراحل جمال حمدان آنذاك، فقد قاسى الرجل من السفاهات والصغائر ما لازمته حتى في فترة انتدابه في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، حيث وجد هناك أن أحد الزملاء ممن سبقوه في العمل بالخرطوم، قد سطا على كتبه ومحاضراته وطبعها ووزعها على الطلبة على أنها من بنات أفكاره؛ فأصيب بالدهشة واستولى عليه الغضب، وأثبت لطلبته أنه صاحب هذه النصوص.
وعاد وفي داخله مرارة بعد أن أمضى في الخرطوم فصلا دراسيا واحدا، أنجز فيه دراسة مهمة تعد من أفضل ما كتب عن مدينة الخرطوم باللغة الإنجليزية، ليجد أن نفس هذا الأستاذ ينافسه على الترقية بل ويحصل عليها قبله بدون وجه حق، وأيقن في قرارة نفسه، وبعد أن تأثرت صحته من جراء هذه الترهات أنه لن يقوى على الوقوف أمام هؤلاء الديناصورات، وأنه لا سبيل إلى محاربتهم بسلاحه الوحيد الذي كان لا يملك سواه وهو سلاح العلم.
يقول أخوه: رأى أخي أن الأولى به أن ينسحب من هذا الميدان وأن يترك هذه الكعكة يتقاسمونها بينهم… وأن يكرس نفسه لتحقيق مشروعه الكبير الذي كان يحلم به، وعايشت أخي في محنته هذه، فلم يكن قراره بالانسحاب والاعتزال بالأمر الهين، ولا هو بالقرار السهل، وعندئذ اعتكف بمنزله، وأرسل استقالته إلى الجامعة، ولكنه حتى في هذه المرة لم ينج من المضايقات، فقد علقت استقالته مدة سنتين؛ مما أعاقه عن الحصول على حقوقه.