جحيم غزة “من المسافة صفر”
يشغل بال الكثيرين، معرفة كيف تواصل جماهير غزة الصمود في ظل حرب إبادة مستمرة منذ أكثر من عام، وكيف تقاوم شظف العيش ونقص الخدمات وبرد الشتاء؟
والإجابة يقدمها بحرفية عالية الفيلم الفلسطيني “من المسافة صفر”، وهو عبارة عن مجموعة من الكادرات السينمائية المتتالية، تضعك فعلا على المسافة صفر من المأساة، ويمر كالبرق نصلها، حتى لا تدرك من فرط رهافته أين أصابك، ليفاجئك مع انتهائه بصفعة قاسية ومؤلمة لكنها مستحقة.
من قلب المعاناة
يظن الكثيرون، أن حركات التحرير تنتصر بواسطة مجموعات من الثوريين والمسلحين، لكن الأحداث الكبرى تشير بوضوح إلى أن من يطلق عليهم “الناس العاديون”، هم أصحاب، القول الفصل، في معارك التحرير والثورات.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالشرق الأوسط.. هل يتغير كما تعهد نتنياهو بعد الطوفان؟!
ترامب وعصر الترحيل للفارين من الطغاة والحروب!
هل أمريكا قوية.. أرجوك فكر بعمق قبل أن تجيب!
وميزة فيلم “من المسافة صفر” للمخرج الكبير “رشيد مشهراوي”، الذي جرى تصويره خلال العدوان الصهيوني الجاري، أنه ينقل الفلسطيني من نمط الشخصيات الأسطورية، كما يتخيله كثيرون، إلى إنسان عادي، له أحلام ومخاوف واحتياجات.
السينمائي، “مشهراوي” يوثق عبر 22 فيلما قصيرا وخلال 100 دقيقة، ما يحدث خلال اللجوء وتحت القصف ومع أشخاص يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة، ويصارعون لتدبير الطعام والماء لأسرهم.
وهم نفس الأشخاص، الذين سيقومون بتنفيذ الفيلم السينمائي، ومن هنا جاءت التسمية، وفيه قصص حقيقية، ما بين طوابير انتظار المياه والخبز وشحن الهواتف.
الفيلم أنتج عام 2024، ومنع الاحتلال عرضه في مدينة القدس، وسينافس على جائزة أوسكار في مارس/آذار المقبل، كأفضل فيلم دولي.
وتتراوح مدة الأفلام بين ثلاث وست دقائق، شاهدت عددا منها في نقابة الصحفيين المصريين، التي عرضته احتفاء بيوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني الموافق 29 نوفمبر/تشرين ثان من كل عام.
إعادة تدوير الحياة
في الأفلام، تختلف الأيام بعضها عن بعض، تتقاطع أحياناً ثم تنفصل، لنخرج في المحصلة بجدارية عن ظروف العيش في مكان يجتمع فيه الأمل باليأس، الموت بالنجاة، الدمار بالرغبة في البناء.
ويكشف فيلم “إعادة تدوير” للمخرجة “رباب خميس”، كيف بدلت حرب الإبادة حياة أهالي قطاع غزة، بل وأفقدتهم أحلامهم.
الأهالي، صار شغلهم الشاغل توفير مكان آمن للنزوح إليه هربًا من ملاحقة الموت لهم، وحتى إذا توفر لهم الأمان المؤقت، بدأت رحلة البحث عن مأكل ومياه صالحة للشرب.
وفي البيت المتهالك، نشاهد أمًا هجرتها الحرب تعيش بمفردها مع ابنتها، لعل الأب استشهد أو الابن يقاتل، أو قد يكون الجزء الآخر من العائلة، نزح في مكان آخر.
تقف الأم في طابور طويل أمام عربة في محاولة للحصول على كمية محدودة من الماء، ليكون عليها فور عودتها للبيت، أن “تغزل برجل حمار”، كما يقول المثل المصري، لتنجز بها مهام عدة.
فبداية، تضع ابنتها في وعاء أبيض كبير ثم تسكب عليها الماء برفق لتحميمها، مستخدمة ركوة نظيفة لإعداد القهوة التركية… ونراها تحجز حصة منها للشرب، ثم تغسل الخضار، وبهذه المياه تروي الأرض.
وتبدع المخرجة في نقل تفاصيل حرص الأم الشديد على عدم إهدار أي نقطة مياه، وهي أمور لا نلتفت إليها في الأوقات العادية مطلقا، لكنها في غزة مع شح المياه، تحمل معنى الحياة.
جاد وناتالي… ليسوا أرقاما
توقفت طويلا عند تصريحات، مدير مستشفى كمال عدوان شمالي غزة “حسام أبو صفية” الذي استشهد ابنه الشاب، عندما قال “أعذروني لن أستطيع أن أجيب على هذا السؤال، يوما ما قد أستطيع “، ردا على إعلامية سألته ” كيف أثر فيك استشهاد ابنك”؟
هذه المشاعر، هي التي أبدع فيلم “جاد وناتالي” للمخرج الفلسطيني “أوس البنا “في نقلها، ليعيد الاعتبار إلى حيوات البشر، في عالم يكتظ بالأرقام، ويختصر الحروب في خسائر مادية وبشرية.
فالفلسطينيون، يحبون ويحلمون ويتركون خلفهم ذكريات، تترك جرحا عميقا لدى ذويهم.
“البنا” يروي قصته الشخصية، حيث فقد حبيبته، التي كان يخطط للزواج منها، واختار معها بالفعل، أسماء أبناء المستقبل، “جاد وناتالي”.
ما زال “البنا” يحن للذكرى، يتذكر حبيبته، وهي تسير معه في شوارع غزة، وهما يلتقطان معا صورة “سيلفي” على الشاطئ.
مشاعر رقيقة وإنسانية تصل إلى القلب مباشرة تماما، عبر عنها، من قبل، شاعرنا المصري الكبير فؤاد حداد: “بيسألوني حبيبي منين حبيبي منين؟ حبيبي من ضيّ قلبي ومن دموع العين، ومن حنان الليالي اللي عشناها”.
لكن “البنا” لا يكتفي بسرد ألم الفقد، بل يحوله إلى رسالة عالمية بأن الفلسطينيين بشر، لهم أحلام يجب أن تصان وتحترم.
“مش بدي اتعلم.. بدي طحين”
هذه الكلمات باتت تعبر عن مزاج غالبية أطفال غزة الجوعى، بفعل حصار ظالم وعالم، “حر” فقط في استخدام الطائرات والقذائف ضد الشعوب.
وفيلم “يوم دراسي” ينجح في رصد تفاصيل حياة الأطفال في المخيمات، حيث الحصول على “لقمة العيش”، هو الهم الأول للجميع.
وبواقعية شديدة، ينقل لنا المخرج “أحمد الدنف”، تعلق طفل بكتبه ودراسته، رغم الوجع والحرمان، حيث يستيقظ من نومه ليعد حقيبته وينطلق.
وبينما نحبس أنفاسنا، لنعرف إلى أين يتجه، وسط المخاطر، نجده يدلف إلى منطقة المقابر الشاسعة.
وأمام أحد الأضرحة يجلس الطالب ويخرج كتبه، ونتطلع لنرى المكتوب على الشاهد، لنعرف أنه قبر معلمه.
وبعد قليل يحزم الطالب حقيبته ويعود مرة أخرى إلى المخيم، في رسالة تحد للحرب، التي إن نجحت في سلب الأرواح، لكنها لم تسلب الأحلام.
الخبز قبل السينما أحيانا
معاناة أهل غزة طالت الجميع حتى الفنانين، الذين أرغمتها الظروف أن يعيشوا أوضاعًا قاسية بدلًا من الانشغال بتصوير أعمالهم، إلى جانب استهداف الاحتلال لهم، حتى لا يسردوا حكاياتهم للعالم.
وفي هذا السياق يعتذر المخرج الفلسطيني “أحمد حسونة” للفن، في فيلمه “عذرا سينما”، بعد أن تغيرت الأولويات في تلك اللحظة الفارقة، التي طالت المخرج نفسه.
وفي دقائق، تمضي كالساعات، من فرط قسوتها، يصور المخرج كفاحه من أجل العثور على خشب، لكي يشعل نارا يطهو بها طعامه، أو يتدفأ بها.
وفي مشهد النهاية العبقري، يضطر المخرج لتحطيم خشبة “الكلاكيت”، التي يعمل بها، ويدون عليها اسم الفيلم والمخرج والمصور ورقم اللقطة. يحطمها ويكسر معها، قلبه وقلوبنا.
وكأن المخرج يدق ناقوس الخطر، لكي يلتفت العالم إلى حجم المعاناة، التي وصلت لذروتها، وباتت لا تحتمل.
“حسونة” المحاصر تحت القصف في شمال غزة، خاطب السينمائيين في مهرجان “كان”، من خلال فيديو “الكونفرنس”: أنا سينمائي، وأُحب السينما، وأحاول الآن أن أنقذ حياتي وحياة أسرتي”.
سننتصر ولكن!
لم أخرج من فيلم “من المسافة صفر” يائسا، بل مدركا لعمق معاناة جماهير غزة، مبهورا بمقاومتهم، في ذات الوقت، ومتفهما كذلك لغضبهم، من عالم يتابع المذبحة صوتا وصورة، ولا يحرك زعماؤه ساكنا.
خرجت، موقنا أن فلسطين ستنتصر يوماً، وستنتصر الحكاية والرواية الفلسطينية في كل مهرجانات العالم، لأنها هي الحقيقة، ولأن شرفاء السينما الفلسطينية، لا يكلون ولا يملون، من أجل نقلها للعالم.
لكن المؤكد أن جماهير غزة، التي عرفت، حتى الآن، كيف تنظم نفسها وتتكيف مع المحنة، بات وضعها المعيشي كارثي، وتنتظر الموت جوعا أو برصاص العدو.
وبالتالي، فإن استمرار قدرتها على الصمود، بات مرهونا أكثر من أي وقت مضى، بالضغط من أجل فك الحصار ووقف الحرب فورا.