نهاية عام وليس نهاية عالم

ترامب (الفرنسية)

(1) جولة في مباراة طويلة

هناك قصة ذات مغزى تُروى عن حطاب كان يريد قطع شجرة ضخمة للغاية ببلطته، أمضى بضعة أيام في محاولة قطعها، أحدث فيها قطعا غائرا لكن الشجرة بقيت صامدة ولم تسقط، حتى دخل اليأس إلى نفسه وشعرأن قوته تخونه وأنه لم يعد قويا كما كان بل أصابه الوهن.

وحين استقرت هذه الفكرة في وجدانه افقدته القدرة على مواصلة الضربات، وقرر حينها الاستعانة بشاب قوي ليستكمل ما بدأه. وبالفعل شمر الشاب عن ساعديه واستخدم بلطة الحطاب وضرب ضربة قوية واحدة سقطت بعدها الشجرة سقوطا مدويا أفزع الحطاب والشاب نفسه، واندهش الحطاب من سرعة السقوط لكن الشاب قال له ببساطة: لم تكن تحتاج إلا هذه الضربة، ولكن اليأس شل قواك والحظ ساعدني.

هوليوود أنتجت العديد من الأفلام عن أبطال الملاكمة، في هذه الأفلام كان هناك مشهد يتكرر، حيث يبدو فيه بطل الفيلم على وشك الخسارة ويصبح قاب قوسين أو أدني من الاستسلام، لكن فجأة تحدث له صحوة يقوم بعدها من كبوته ويرد لخصمه الصاع صاعين، لينال فوزا مستحقا على خصمه الذي أنهكه القتال هو الآخر.

اللحظة التي تظن فيها أن مآلك السقوط، لحظة فارقة لو تحليت فيها باليقين والثقة بالنفس والإرادة القوية والصبر لانقلبت الأمور لصالحك لكن أكثرنا تخونه نفسه ويستسلم.

قد يتساءل القارئ لماذا أسرد هذه الأمثلة الآن؟، لأن مراقبة ما يجري حولنا من صراع وحروب يستحضر في خيالي تلك الأمثلة. يظن المتابع لمجريات الصراع في غزة ولبنان أن جيش الاحتلال الإسرائيلي حقق نصرا على حماس وحزب الله، وأنه كان من الخطأ الفادح تصور أن مثل هذه الميليشيات المسلحة قادرة على التغلب على جيش من أقوى جيوش المنطقة ويحظى بدعم غير محدود من أمريكا صاحبة أقوي جيش في العالم.

وطبقا لمنطق القوة يحق للمنتصر أن يخرق اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، وأن يفعل ما يحلو له في غزة، وعلى المقاومة المنكسرة أن تقبل نتائج تهورها.

الأمور ليست دائما كما تبدو، الجيش الإسرائيلي أيضا منهك بشدة من الضربات المتتالية من حماس وحزب الله وما لمسه جنوده من جرأة وشجاعة جنود المقاومة في الميدان، وقادة إسرائيل يدركون أثر الضربات المتتالية، ولهذا فهم عازمون على قطع أيدي حماس وحزب الله حتى لا يستطيعا في أي وقت من الأوقات أن يضرب أحدهما أو كلاهما ضربة واحدة قد تكون القاضية وتضع نهاية أسطورة جيش الاحتلال.

فتح جبهة جديدة للصراع في سوريا، بمعاونة قوي إقليمية ودولية هو استكمال للمشهد ومحاولة ضرب عصافير عدة بحجر واحد.

سألوا مرة، أسطورة الملاكمة الراحل محمد علي كلاي ما الفرق بين البطل ومنافسه، أجاب: “كلاهما قوي وكلاهما يتألم من الضربات لكن المنافس يستسلم أولا، ولو تحمل لحظات قليلة أخرى لأصبح هو البطل الفائز.”

ما يحدث الآن جولة في مباره كبرى لتكسير العظام، مباراة بين خصمين أحدهما يمثل قوة غاشمة محتلة تملك كل أدوات الحرب والإبادة والتدمير والآخرى قوة تؤمن بحقها في حياة كريمة مستقلة، وعندي يقين بأنه ستكون هناك ضربة ساحقة من قوة الحق تسقط بعدها شجرة الاحتلال المتجذرة سقوطا مروعا ومدهشا.

(2) تهديدات ترامب لن تغير العالم

العالم يترقب بقلق عودة ترامب، والأخير يتعجل هذه العودة ولا يستطيع أن يصبر حتى يناير المقبل ليصبح من جديد في دائرة الضوء العالمي. شهوة الانتصار الكبير الذي حظي به في الانتخابات الرئاسية تعمي بصره وبصيرته، فلديه اعتقاد أن العالم رهينة في يد بلاده وبلاده أمانة في يده، يتصور أنه بدون أمريكا لن يستطيع العالم تدبير أموره وسيحل الظلام واللعنات.

وبسبب هذا التفكير توسع ترامب في إطلاق التهديدات، منها فرض رسوم إضافية فورية، بعد تنصيبه، على الواردات من المكسيك وكندا والصين. كذلك هدد دول البريكس بفرض رسوم جمركية على واردتها بنسبة 100%حال استخدام عملة بديلة عن الدولار العظيم!.

كما هدد بجحيم في الشرق الأوسط حال عدم إطلاق سراح الرهائن في غزة قبل موعد تنصيبه. كان الأفضل لترامب بدلا من التهديد والوعيد طمأنة العالم بالحديث عن السلام والاستقرار والرخاء العالمي في عهده.

ترامب في تهديداته يعتمد على قوة بلاده الاقتصادية والعسكرية فهي رقم واحد في المجالين، ولكن هذا لا يجعلها قادرة على تحدي العالم أجمع وفرض مصالحها على حلفائها ومنافسيها. البعض يعتقد أن جزءا مما يفعله ترامب يعود لكونه رجل أعمال اعتاد أن يبدأ المفاوضات برفع سقف طلباته حتى يصل بعد التفاوض لما يريده دون تنازل من جانبه، الشيء الوحيد المؤكد أن عقلية ترامب أصبحت محل دراسة مراكز بحوث السلوك وأجهزة الاستخبارات في العديد من دول العالم، وإن كان ترامب يعتمد على قدرته على القيام بمفاجآت تربك حلفاءه وخصومه، فلقد تعلم الجميع الدرس وأصبحت هناك سيناريوهات عدة للتعامل معه، لو خاب أحدهما سينجح الآخر.

العالم الذي تركه ترامب قبل أربع سنوات تغير عن عالم اليوم، وكما يريد ترامب أن يجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى فكل قائد مخلص لبلده يريد الأمر ذاته من بلده وشعبه، وحين تتصارع المصالح البقاء سيكون ليس للأقوى فقط لكن الأكثر تحملا وصبرا وحكمة وهو ما تفتقده “أمريكا ترامب”.

منطقتنا المنكوبة بالحروب والصراع، التي تتنافس عليها كل القوي الإقليمية والدولية لموقعها وثرواتها، مرشحة لأن تمتد النزاعات والحروب فيها إلى العام القادم، لكن مهما حدث وسيحدث فهو ليس نهاية العالم، بل جولة في مباراة طويلة يتنافس فيها لاعبون كثر سيخرج منها الأكثر ضجيجا وغطرسة وغرورا ويفوز فيها صاحب النفس الطويل والإرادة القوية والإيمان لأنه يستحق الفوز في معركة الوجود، فهل يتعلم العرب الدرس؟.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان