الجولاني وتحولاته الجديدة

أبو محمد الجولاني، قائد غرفة عمليات المعارضة السورية المسلحة (منصات التواصل)

في 2016 سقطت حلب “الشرقية” بيد قوات النظام، وركب الناس دروب التهجير القسري الذي فرضته الطائرات الروسية، وتقاطع مصالح الدول الفاعلة في الملف السوري.

انضمّ المهجّرون إلى أخوتهم من بقية المحافظات إلى بحر من الخيام يتجاوز في تعداده المليون خيمة، أمّا من بقي في حلب فعاش منذ ذلك الحين مرحلة من الاستقرار ظنّ لوهلة أنها دائمة أبدًا، عاد إلى خوفه المزروع فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستكان إلى وضعه الجديد محاولًا التأقلم مع التغيّرات المتسارعة ديموغرافيًا وعقديًا، لكن وكما هو الحال في الدول التي تعيش حالة صراع مع السلطة لا شيء دائم، فمصالح الدول الفاعلة متغيّرة، والتقاطعات متغيّرة دومًا، وما يمكن أن نعدّه مفاجئًا نكتشف أن هناك من كان يُحضّر له منذ زمن، وبهذا الإطار فاجأت عملية “ردع العدوان” السوريين جميعًا علمًا أن أحد التسريبات يقول: إن من بين الوثائق التي عثر عليها مقاتلو “ردع العدوان” وثيقة تعود للأمن العسكري للنظام، مؤرخة قبل شهرين، تفيد بعلمهم بالإعداد لهذه العملية!

اختلاف السوريين المزمن

وفور انطلاق الحرب انقسم السوريون بين متشكك وخائف ومؤيد، فأبناء الأرض المتضررون من التهجير وصلت فرحتهم عنان السماء وهذا حقّهم الذي لا يُنازعون عليه، وأمّا الخائفون فلهم مبرراتهم فقد عاشوا بضع سنوات في حالة من الهدوء والآن سيعودون للخوف من القصف، وأمّا المتشككون فهم أصحاب الإيديولوجيات المختلفة ومنهم من تضرر من جرائم الإسلاميين ضررًا يفوق الضرر الذي ناله من النظام، فهيئة تحرير الشام هي ذاتها جبهة النصرة سابقًا، والكل يعرف ماذا فعلت جبهة النصرة بفصائل الجيش الحرّ، وماذا فعلت حتى بالثوار الأحرار الذين عارضوا توجهاتها، لكن ومع انطلاق “ردع العدوان” فوجئ الجميع ببعض الإشارات التي تشير إلى تغيرات عميقة في سياسة هؤلاء “الجهاديين”، وتمنح الآخر ارتياحًا ضمنيًا مشوبًا بالحذر كان في بدايتها أن لا راية غير راية الثورة في الميدان، وأمّا الإشارات الأُخر الأكثر دلالة فقد تجسدت في:

1- إعادة 500 عائلة كردية هجّرتهم ميليشيا “pkk” إلى تل رفعت، وأرادت نقلهم إلى شرق الفرات، لكن قوات “ردع العدوان” أعادتهم إلى بيوتهم في عفرين معززين مكرمين، وهذه إشارة مهمة إلى مدنية الدولة المرتقبة بعد سقوط النظام.

2- عند انسحاب النظام والميليشيات الإيرانية من مدينة حلب تم تخويف أبناء ضاحيتي نُبُّل والزهراء طائفيًا، فهربوا مع المنسحبين إلى بلدة “السفيرة” ويبلغ عددهم قرابة الثلاثة آلاف معظمهم من النساء، وهناك غدر بهم النظام وقادة فصائلهم، فتركوهم في العراء ومضوا. ذهب إليهم مقاتلو “ردع العدوان”، وخيّروهم بين نقلهم إلى دمشق، أو عودتهم إلى بيوتهم، وكان أن اختاروا العودة فتمّ نقلهم إلى ” نُبّل والزهراء”، وهذه أيضًا إشارة مهمة جدًا.

3- تم بالأمس بدء استقبال طلبات الحصول على بطاقة مؤقتة من قبل المنشقين عن جيش النظام، بمراكز عدة في مدينة حلب وذلك لتأمين سلامتهم من قِبل إدارة العمليات العسكرية.

فإذا أضفنا إلى ما سبق تصريحات ما رأيناه من مواقف الكنيسة في حلب ورسائل التطمين التي ترسلها إدارة العمليات العسكرية لمسيحيي مدينة “الصقيلبية” نجد أنفسنا أمام معطيات تبعث الطمأنينة في نفوس أبناء سوريا، وتنبئ عن استفادة عظيمة من التجارب السابقة، وقد وجّه أوامر للمقاتلين في حلب للانسحاب، وترك المدينة للقوى المدنية لإدارتها.

حضور متواضع لقوات الجولاني في معارك حلب.

أمّا ما يتناساه الكثير من السوريين -أو ربّما البعض لا يعرفه- فهو حجم مقاتلي الجولاني في الجيش الجديد الذي يخوض الآن المعركة في قلب حماة، إنه حسب التقديرات بحدود الـ5% وهذا يُفسر لنا التحولات التي تفرض نفسها على الجولاني ذاته، فهو يُدرك تمامًا أنّه لا يمتلك القوة الكافية للهيمنة على هذه المساحات الجديدة فهو في إدلب لم يستطع الهيمنة على سراقب ولا معرة النعمان ولا كفرنبل، وذلك في مرحلة كانت سطوته عظيمة، ويبدو أنه يمتلك من الحنكة السياسية أكثر من أعضاء الائتلاف الوطني جميعهم وبقية من يسمون أنفسهم معارضة سياسية، ولهذا سارع في هذه التحولات ليُسقط عن نفسه صفة الإرهاب، ويجد لنفسه موطئ قدم في المستقبل السياسي لسوريا.

بيضة القبّان

وإن صح ما نُقل عنه “تصريحه” بأن هيئة تحرير الشام تفكّر جديًّا في حلّ نفسها بهدف تعزيز الاندماج بين الهياكل المدنية والعسكرية -إن صح ذلك- فنحن أمام مرحلة جديدة بالفعل، ويبقى الأمل معقودًا على بقاء تقاطعات المصالح الدولية في أن تواصل مصبها في صالح أبناء سوريا الأحرار عسى أن يتمكنوا أخيرًا من صنع دولة تليق بهم. خاصة في ظلّ التسارع المذهل لتقدم المعارضة، وتوغلها باتّجاه الجنوب، ووصولها أطراف حمص. والحوار الذي أجراه القائد “أحمد الشرع” بعد خلعه عباءة الجولاني، وتقديم نفسه للجماهير باسمه الحقيقي، وسيرته الذاتية الكاملة التي كانت مخفية عن الشعب السوري حين كان الغموض يحيط بشخصية “أبو محمد الجولاني”. كثرٌ من السوريين أعادوا النظر في مواقفهم السابقة وتصريحاتهم ومنشوراتهم على مواقع لتواصل بعد أن طبّق أبو محمد الوسطية التي غابت عن الساحة السورية منذ نصف قرن حين حُصر الحكم في “كفّة ميزان” واحدة، وقطعت الذراع الأفقيّة للقبّان، ونسفت التعددية والوسطية والعدالة، ولم يعد هناك توازن في إدارة البلاد.
المعروف بأنّ تلك الكتلة المعدنية التي تتوسط كفتي “القبّان-الميزان” هي التي تتحكّم بدقته، واستخدمت العبارة مجازًا في السياسة للدلالة على حفظ التوازن، وبيضة القبّان هي التي ترجّح خيارًا سياسيًا على آخر. يبدو أن “أحمد الشرع” القائد الجديد للمعارك امتلك الحنكة السياسية الكافية بجعل حلب “بيضة القبّان”، وبذلك طمأن السوريين في المناطق التي لم تتحرر بعد، وجعلهم يبادرون لتحرير مناطقهم بالتنسيق مع إدارته الجديدة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان