كيف توحد القيادة المجتمع لتبني المستقبل؟!
لاحظت وأنا أطور نظريات القيادة أن الباحثين حاولوا تطوير وظائف جديدة للقيادة من أهمها تحقيق وحدة المجتمع وتماسكه.
وجاء هذا الاتجاه لمواجهة التحديات التي أصبح العالم يواجهها، فالكثير من المجتمعات تواجه التفكك بعد أن تزايدت الكراهية، مما يهدد بانفجار أشكال جديدة من الصراعات والحروب الأهلية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالكتيبة الإعلامية في غزة.. وطوفان الوعي
“جنين غراد”.. والفلسطيني المُستباح!
ورقة إعادة الإعمار.. سوريا وإيجاد الأرضية المشتركة
وكان لخطاب الكثير من القادة تأثيره في تزايد حدة الخلافات نتيجة التحيز لعرق أو اتجاه سياسي، والتخلي عن القيم الأخلاقية واستخدام القوة الغاشمة، لإخضاع المجتمعات بالقهر والتخويف والنفي والاستئصال، والاستعانة بالقوى الإقليمية والعالمية لفرض السيطرة، أو تقديم حلول خطرة للمشكلات الاقتصادية مثل الديون.
على فوهة بركان!
إن القوة الغاشمة يمكن أن تنجح لفترة من الزمن في قهر الشعوب، وإرغامها على التخلي عن أحلامها في الحرية والديموقراطية، وهذا يعطي انطباعا زائفا عن استقرار الدولة، بالرغم من السخط الشعبي الذي يمكن أن ينفجر في لحظة لا يتوقعها الذين ينافقون للحكام، ويدفعونهم لقهر شعوبهم.
حالة سوريا يمكن أن تشحذ بصيرتنا لرؤية مستقبل الكثير من دول العالم، فقد استخدم النظام السوري قوته الغاشمة لقهر الشعب وإخضاعه، وتشير إحصائيات غير رسمية إلى أن عدد الشهداء الذين قتلهم نظام بشار الأسد تجاوز النصف مليون، في حين بلغ عدد اللاجئين ستة ملايين.. ولا يعرف أحد عدد السجناء الذين تم انتهاك كل حقوقهم، وتعرضوا لأشكال بشعة من التعذيب.
القيادة والتفكير بحكمة
تجربة نظام بشار الأسد توضح أن القوة الغاشمة تحقق استقرارا زائفا ينهار عندما تتغير الأحوال، وأن استراتيجية التخويف تكون نتائجها أخطر مما يتخيل الذين يستخدمونها، وأن كراهية الشعوب للنظم الحاكمة تتحول إلى انفجار يتطاير شرره في الاتجاهات كلها، ولا أحد يعرف للثورات موعدا، فهي تنطلق فجأة، والشعوب تنتظر اللحظة المناسبة.
تلك حالة واحدة توضح حاجة الشعوب إلى قيادات تفكر بحكمة، وتقوم بوظيفة جديدة هي توحيد المجتمعات، ولكن كيف؟!
معظم الباحثين الذين تحدثوا عن تلك الوظيفة قدموا اقتراحات مختلفة تصلح للشركات ومجال الأعمال، بعد أن اكتشفوا أن تلك الشركات يمكن أن تتعرض للانهيار إن لم تجد قيادات توحدها، فإن كانت الشركات تحتاج إلى تلك القيادات، فما أشد حاجة الدول إليها!
إن التفكير في بناء مستقبل الدول يحتاج إلى حكمة وبصيرة ورؤية جديدة، وفتح المجال العام لمناقشة حرة يبرز خلالها قادة يقدمون رؤية تقوم على استثمار الاختلافات، وتحويلها إلى تنوع ينتج أفكارا جديدة.
هل يمكن توحيد المجتمعات؟!
هناك تجارب عالمية تشير دراستها إلى أنه يمكن توحيد المجتمعات رغم الاختلافات، فالتجربة الأمريكية توضح أن حرية الصحافة كانت أهم عناصر القوة، حيث تمكنت الصحف من توحيد المجتمع حول “الحلم الأمريكي” الذي يقوم على بناء دولة الديموقراطية والحرية والرفاهية.
توضح تلك التجربة أن الحلم والحرية في التعبير عنه يمكن أن يشكل أساسا لوحدة المجتمع، كما أن الصحافة الحرة تقوم بدور القيادة عندما تفتح المجال لنشر الأفكار الجديدة، وتسهم بذلك في زيادة قدرة الشعب على اختيار القادة الذين يعبرون عن حلمه، ولقد نشرت الصحف الكثير من الأفكار الجديدة التي أسهمت في تطوير الاقتصاد الأمريكي، وزيادة قوة أمريكا في مجالات التكنولوجيا والعلم والتعليم.
تجربة مانديلا أكثر إثارة!
أما تجربة مانديلا فهي أكثر وضوحا، وتسهم في تطوير وظيفة القيادة في توحيد الدولة، فقد عاش مانديلا يعبّر عن حقوق السود، ويكافح من أجل تحرير جنوب إفريقيا من التفرقة العنصرية، لكنه خلال سنوات سجنه الطويلة تمكن من تطوير وظيفته لتوحيد الدولة على أسس الحرية والمساواة، وليقنع السود بأن يتناسوا مأساتهم التاريخية، وليقنع البيض بأن يقبلوا الحياة في جنوب إفريقيا كمواطنين يتمتعون بحقوقهم المتساوية مع السود، وبذلك حرر جنوب إفريقيا من التفرقة العنصرية، فانطلقت الدولة تطور اقتصادها وتستثمر ثرواتها، ليتمتع مواطنوها جميعهم بحق الحياة والمشاركة السياسية، وبناء المشروعات الخاصة التي شكلت أساسا لاقتصاد وطني قوي.
القيادة وتوحيد المجتمع
توضح تجربة مانديلا أن توحيد المجتمع أهم وظيفة يقوم بها القائد، عندما يبني رؤيته على أساس الحقوق المتساوية لكل أبناء الشعب، فيقبل الجميع الحياة المشتركة والتعاون وتسوية الصراعات بالوسائل الديموقراطية.
لم يقل مانديلا “إما نحن وإما هم!!”، بل أقنع الجميع بأن جنوب إفريقيا وطن للبيض والسود معا، وشارك الجميع في بناء نهضة جنوب إفريقيا التي أصبحت دولة تقود الدفاع عن الأخلاق والديموقراطية، وتكافح ضد الإبادة الجماعية لحماية العالم من الجرائم التي يرتكبها الطغاة باستخدام قوتهم الغاشمة، ولذلك تقدمت جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية تطالب بحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية، ومعاقبة دولة الاحتلال الإسرائيلي لارتكابها جرائم ضد الإنسانية.
القيادة تحقق الحلم!
عندما يقوم القائد بوظيفته في توحيد شعبه، فإنه يضع الأساس لانطلاق الدولة بكل مكوناتها الاجتماعية والسياسية لتحقيق الحلم، والكفاح المشترك لتحقيقه يزيد تماسك المجتمع، ويحقق التسامح والرحمة والالتزام بالأخلاق في تحقيق الأهداف.
لكن تلك مهمة صعبة لا يقوم بها إلا قائد يبني رؤية للمستقبل، وتكون هذه الرؤية نتيجة لكفاح طويل، فالمعاناة تشحذ البصيرة، وتزيد القدرة على ترتيب الأولويات، وعندما يختار الشعب هذا القائد يعبّر عن إرادته، وهذا يشكل أهم إنجاز تاريخي يقوم به الشعب، ويمكن أن يدفع ثمنه غاليا من دماء أبنائه، لكن التقدم يرتبط بالحرية، والشعب المقهور لا يحقق تنمية، ومن أهم ثمرات الحرية أن ينتخب الشعب قائدا يوحده ويعبّر عن حلمه، ولا يستخدم القوة الغاشمة ضد شعبه.