الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
لم يسقط نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” سريعًا كما تصفه وكالات الأنباء، منذ ساعات، لكن الحقيقة أن طبيب العيون الذي صعد لكرسي الحكم عام 2000 بعد وفاة والده الرئيس السابق “حافظ الأسد”، (1971-2000)، استطاع البقاء أكثر مما ينبغي، والتشبث والمكوث على قمة السلطة أطول مما يجب، ونجح بثمن فادح دفعته بلاده أن يقاوم رياح التغيير التي زلزلت قبل سنوات عدة أنظمة في العالم العربي.
رياح الخريف
نجا نظام “بشار الأسد” من موجة التغيير التي هبت وأسقطت الأنظمة في تونس ومصر وليبيا عام 2011، والتي عرفت بـ”الربيع العربي” لكن النظام السوري سقط بشكل مفاجئ وغير متوقع وفي أحداث سريعة ومتلاحقة عقب رياح خريفية هبت عاصفة عليه وحده بعد أن أحيط برأس النظام ففر “بشار” هاربًا قبل ساعات بليل تمامًا مثلما فعل الرئيس التونسي “زين العابدين بن علي” (1987-2011)، لكن “بشار” ترك بلاده ممزقة بين مناطق نفوذ جماعات معارضة ومتعارضة تمامًا كما ترك العقيد معمر القذافي الذي حكم ليبيا (1969-2011)، بلاده ممزقة بين صراع الساسة والجنرالات في الشرق والغرب.
الدكتاتور الصامد؟
يُستخدم مصطلح “الصمود” بمعنى الثبات والمثابرة لوصف المقاومة ضد الاحتلال، لكن عندما بدأت المظاهرات ضد نظام “بشار الأسد” في بداية عام 2011 واجهتها أجهزة النظام بعنف وقمعتها بالرصاص، وعندما اتخذت بعض فصائل المعارضة نهج الكفاح المسلح استعان النظام السوري بفصائل تابعة لحزب الله، الجماعة المسلحة الرئيسية في لبنان المتاخمة لسوريا، لتقاتل معه أو بالنيابة عنه فصائل الثوار أو المعارضين.
قام حزب الله بتجميل صورة “الأسد” الذي يُنظر إليه في المحافل الدولية والحقوقية كدكتاتور يقمع ويقتل معارضيه بلا هوادة، ولا يعرف معنى إشراك الشعب في نظام الحكم، ويملك سجلًا سيئًا في مجال حقوق الإنسان، وكان أن اعتبر “حزب الله” في خطابه الإعلامي أن بشار هو “رسول الممانعة” ضد جبروت إسرائيل في المنطقة وأن منع سقوطه هو إسناد للمقاومة في دول المجابهة، وأن مساعدته على البقاء فرض واجب على كل عربي شريف وكل مسلم وطني.
ممانعة دون رصاص
كان لافتًا أن حزب الله سخر أذرعه الإعلامية لوصف بشار بالقائد الذي يرفض الخضوع للضغوط التي تمارس بواسطة الولايات المتحدة ودول غربية على الدول العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني أو لتوقيع اتفاقية سلام معه، في الوقت الذي لم يطلق النظام السوري رصاصة واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان التي سقطت في يد الكيان المغتصب منذ 5 يونيو/حزيران سنة 1967، ولم يعرف عنه أنه هدد حتى بالحرب من أجل استعادة الجولان، كما أنه لم يبذل جهدًا دبلوماسيًا يُذكر في المطالبة بجلاء قوات الاحتلال الصهيوني من الجولان حتى بدا أن النظام السوري خاضع وخانع فيما يتعلق بأراضيه المحتلة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالكتيبة الإعلامية في غزة.. وطوفان الوعي
“جنين غراد”.. والفلسطيني المُستباح!
ورقة إعادة الإعمار.. سوريا وإيجاد الأرضية المشتركة
كان غريبًا أن يتبنى حزب شعاره المقاومة خطابًا تجميليًا لدكتاتور يحبس أنفاس شعبه ويلاحق معارضيه ويرضى ببقايا وطن من أجل مقعد الحاكم حتى لو تآكلت قوائم نظامه وأصبح رئيسًا “كرتونيًا” لوطن تشرذمت جنباته وتفرقت أنحاؤه.
ورغم أن حزب الله هو تنظيم انخرط في المقاومة خلال اجتياح الاحتلال الصهيوني للبنان والعاصمة “بيروت” عام 1982 ثم عكف على تكوين قوات ومليشيات رفعت راية المقاومة للدولة العبرية، لكن الحزب يُعتبر على نطاق واسع ذراعًا للنظام الشيعي الإيراني، الذي يرتبط بعرى وثيقة مع النظام السوري.
كانت استعانة نظام “بشار الأسد” بقوات من “حزب الله” أمرًا تسبب في تضرر صورة الحزب في العالم العربي كونه تحول من فصيل مقاوم يرفع شعار طرد الاحتلال من لبنان وتحرير فلسطين إلى مجرد مليشيات تخدم في صفوف نظام بشار المستبد حماية له من السقوط.
حتى آخر مواطن
عقب هبوب رياح التغيير في العالم العربي عام 2011 تشبث “بشار الأسد” بموقعه وأراق الدماء السورية في سبيل الحفاظ على عرشه ولم يكترث أن ضحاياه قد بلغوا مئات الآلاف من القتلى والجرحى غير ملايين اللاجئين والنازحين، كما امتلأت السجون بالمعتقلين الذين اختفى منهم عدد لا يُعرف إذا كانوا أحياء أم أموات، كما تشرد ملايين السوريين ونزحوا إلى لبنان ومصر والأردن والعراق ودول الخليج العربي، وتوجه عدد غير قليل لأوروبا وتركيا وتعرض منهم آلاف لخطر الموت غرقًا في مياة البحر، وقد كان واضحًا أن “بشار” سيحارب حتى آخر مواطن سوري سواء كان جنديًا في الجيش أو معارضًا قرر الثورة أو التمرد وحمل السلاح ضده.
الأوتاد الخارجية
أهمل “بشار” القوى الفاعلة في بلاده واستبدل رضاها بتحالفات إقليمية ودولية، واعتمد في بقائه على قوى خارجية لها حساباتها الخاصة التي تُعلي مصلحتها على ما عداها من اتفاقات مهما طالت فإنها مؤقتة.
اتكأ “الأسد” على تحالفه مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تعتبر عدوًا لأمريكا، وبينها وبين دول الغرب مشكلات كبري، بسبب ملفها النووي وبعد بدء العدوان الصهيوني على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أصبحت إيران طرفًا في الصراع العسكري المباشر الذي نشب عقب عملية “طوفان الأقصى”، لكنها بدت متخاذلة وضعيفة في ردها العسكري على ضربات إسرائيل لها سواء بقصف منشآتها العسكرية أو باغتيال شخصيات داخل الأراضي الإيرانية مثل الشهيد “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
كان طبيعيًا وجود مستشارين عسكريين إيرانيين ولبنانيين شيعة، لا بسبب حرب تخوضها سوريا لتحرير أرضها ولكن لمواجهة الجماعات المعارضة وتثبيت أركان النظام، وقد كان “حزب الله” أداة مهمة في قمع الانتفاضة المتقطعة من فصائل المعارضة ضد نظام “بشار” منذ 13 عامًا.
أدى ضعف النظام وعربدة أجهزة الاستخبارات الأجنبية لتدخل الولايات المتحدة بقواتها في شرق سوريا، وكذلك قوات روسيا الاتحادية في غرب سوريا حيث منحها الأسد نفوذًا يقابل به النفوذ الأمريكي في الشرق، لكن انشغال روسيا منذ فبراير شباط 2022 بالحرب التي شنتها على أوكرانيا جعل إسناد النظام السوري ليس أولوية بالنسبة لموسكو خاصة مع ارتفاع كلفة هذا الإسناد.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن شمال سوريا كان مرتعًا للقوات التركية فإننا سنكتشف بسهولة أن بشار كان بالكاد رئيسًا في قصره بلا دولة وبلا جيش تقريبًا.
المحصلة أن إيران وحزب الله وروسيا غرقوا في مشكلاتهم الخاصة وبات على نظام الأسد أن يلجأ لمن يحميه، ولأنه بلا ظهير شعبي يرتكن إليه فقد كان السقوط حتميًا.
البصر والبصيرة
لم ينتبه “بشار” أن استمراره ليس معناه أن الشعب السوري يريده، وأن الصمود لا يمنع السقوط، وأنه في انتظار فرصة أخرى ليحتفل برحيله، ويدهس صوره وتماثيله، ويلعن عهده، وأنه لن يدافع عنه بتاريخه الاستبدادي، وإنما تركه يواجه جماعات مسلحة معارضة خفت صوتها منذ سنوات، لكنها تحركت بسرعة منذ أيام لتستولي على مدن رئيسية دون مقاومة ثم تدخل دمشق فجر اليوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول.
كان بشار الذي فر وسقط نظامه طويل القامة (189 سم) لكنه قصير النظر، فلم ير غير أن “سوريا” مُلك له توارثه عن أبيه، لا يمكن أن يتخلى عنه بسهولة بل أثبتت ممارساته أنه مستعد أن يضحي ببلاده نفسها، في مقابل أن يظل حاكمًا ولو على العاصمة “دمشق” وحدها، أو حتى على مبنى واحد فيها هو قصر الرئاسة.