المراهنون على بقاء ” الأسد” حيا وهاربا!
لم يسقط الأسد فجأة وإن ظل حيا ليكون لغيره عبرة وآية. فقد سبق السوريون المصريين بثورتهم على النظام قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، متأثرين بشرارة الربيع العربي التي انطلقت من تونس في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010. تكللت ثورة تونس بهروب زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011، في حين استمرت الاحتجاجات الشعبية بسوريا، رغم العنف الذي قوبلت به.
بدأ الشباب السوري بمصر المشاركة في الثورة بالوقوف أمام سفارتهم بالقاهرة، بشارع عبد الرحيم صبري بحي الدقي غرب العاصمة للتعبير عن غضبهم من الترويع وسجن أهليهم ممن خرجوا في مظاهرات سلمية تضم ألوان الطيف السياسي والنخب المثقفة، ممن أدركوا أن سوريا في طريقها إلى الانهيار، إذا استمر حكم “آل الأسد” الاستبدادي على خلفية طائفية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأولوية إعمار غزة على الحج والعمرة هذا العام
عودة السوريين بين الارتياح العام وخسارة الاقتصاد التركي
الشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
في الوقفة الأولى يوم 18 يناير 2011، ارتفعت أصواتهم للمطالبة بالحرية فاستدعى السفير قوات الأمن لملاحقة المتظاهرين الذين هربوا خوفا من البطش، الذي خبروا قسوته من أترابهم المصريين.
في المظاهرة الثانية في 20 فبرير/شباط 2011 لم يتمكن السفير من استدعاء الأمن المركزي، الذي خارت قواه أمام المتظاهرين يوم 29 يناير، واختفى من الشوارع. فوجئ السفير بدعوة الشباب إلى انضمامه إلى ثورتهم وتوقفه عن الرهان على النظام الخاسر. رفض السفير مغاضبا، وإذ بالشباب يرجعون يوميا إليه أكثر عددا وأعز نفرا وأعلى صوتا، وفي أيديهم علم جديد وشعارات وأغان تطالب بإسقاط النظام.
المتربصون والطاغية
ولّد صدق الثائرين حماسا في نفوسنا بعدالة قضيتهم الداعية إلى الحرية ووطن حر. فلم نر عبر التاريخ شعبا يخسر أمام حاكم لديه القدرة على حرق وقتل 500 ألف إنسان وتشريد نصف مواطنيه، بل كان مآل الحاكم أن ينال عقابه، مهما كانت قوته وعدد جنوده.
راهنا على أن الثورة ستنجح ولو بعد حين، بينما كان المتربصون بها من عرب وصهاينة وصينيين وروس وأمريكيين وأوروبيين، يسعون إلى إطفاء نورها أو خطفها أو تشويه سمعتها بما صنعوه من كيانات إرهابية وعشوائية تنفذ أجندتهم القذرة، بعيدا عن الشعب الحر المسالم.
لم تولد الثورة من فراغ، فقد ذاق الشعب السوري على مدار 6 عقود ونيف من حكم أسرة الأسد ورجاله ويلات العذاب، وكان أملهم أن تمتد لهم يد العون من الدول العربية لإنقاذهم من الظلم الواقع بهم، خاصة الشعوب التي نجحت في إزاحة الحكام، كمصر وتونس وليبيا.
ساعد المجلس العسكري السفير السوري في نقل مقره إلى منطقة جاردن سيتي المجاورة للبرلمان ومجلس الوزراء المحصنة بالحماية العسكرية، ومع ذلك لم يستطع أن يوقف اقتحام الشباب لأسوارها مستهدفا إسقاط علم النظام ورفع علم “سوريا الحرة” ذي اللون الأخضر.
أدرك الثائرون أن اقتحامهم للسفارة بمصر لن يغير من الأمر شيئا، مع وجود قوى حاكمة، ما زالت تراهن على بقاء نظام الأسد بمكانه، فكلما أنزلوا علما عن السفارة ترفعه بأيديها من جديد. أيقن الثائرون أن التغيير لن يأتي إلا بإزاحة الطاغية بالداخل. عاد أكثرهم إلى سوريا، تاركين أعمالهم وجامعاتهم، للانضمام إلى الثوار، غير مكترثين بما سيلاقونه من ملاحقات أمنية وضرب الرصاص.
راهن الشباب على نجاح ثورتهم، بينما تركوا المعركة السياسية بالقاهرة وأوروبا، تديرها نخبة من الدبلوماسيين والمفكرين والقادة المنشقين عن النظام الذين اتحدوا تحت التيار السوري الحر، لدعم ثورتهم، وإجراء مشاورات مع عواصم الدول العربية والأوروبية وواشنطن، طلبا للنصرة والعون.
غسل سمعة “الأسد”
راهن الثوار على استعادة سوريا دون إراقة دماء، بينما راهنت أنظمة عربية على وأدهم وسحب البساط من تحت أرجلهم، فمنها من أسرع بتصدير الأسلحة والقاذفات إلى نظام الأسد، الذي تجرأ واستخدم قنابل الكلور وغاز الخردل ضد المتظاهرين بريف دمشق ودرعا، وأطلق نيران الدبابات والطائرات على حلب وحماة، وشكل مليشيات مسلحة، تطارد المتظاهرين في بيوتهم وتصادر أملاكهم.
مكنت أنظمة عربية الأسد من محاصرة الثائرين خارج الوطن بحظر أنشطتهم، وتجميع الفارين من أهواله في أماكن بعينها، ووضعهم تحت رقابة صارمة، وظفها الأسد بملاحقة ما بقي من أهليهم بسوريا، ومصادرة بيوت وثروات من غادر البلاد بدون موافقته.
راهن الثائرون على دعم الشعوب، فلم يجنوا إلا ما فعله الرئيس الراحل محمد مرسي بتظاهرة ” لبيك سوريا” بملعب القاهرة، التي واكبت طرد نظام الأسد من الجامعة العربية. وسرعان ما تغير الأمر، فتحول السوريون بالمنفى إلى ملاحقين بتهم دعم الثورات، ونعتهم بالإرهاب بينما صُنعت لجان شعبية وفنية لغسل سمعة نظام الأسد للمراهنة على بقائه وإنقاذ نظامه من السقوط.
لم يكن رهان الأنظمة مقرونا بعلاقات جديدة بالنظام، بقدر خشيتهم تكرار الثورات التي كبتوها بعواصمهم وحتى لا تصبح ثورة سوريا نموذجا آخر، بعد أن أجهضوا النموذج -ثورة الربيع العربي الأم- في تونس.
فاتورة الاحتلال
خسر الشعب الثائر رهانه على الدول التي دعمت انطلاق ثورته، لتصفية حسابات مع نظام الأسد، وأخرى غيرت اقتناعاتها بدافع طائفي والتزاما بمصالح دول كبرى. تمكن المتربصون من تحويل سوريا إلى مقتلة بين الجماعات المتطرفة، فاقتنص الأسد فرصته للبقاء حيا.
فاز الأسد برهان أعداء الثورة على بقائه، بتوقيعه اتفاقات أمنية مع روسيا منحتها إنشاء قواعد عسكرية لا سيادة له عليها. ساهمت روسيا في تعويم الأسد من جديد وإعادة بسط سيطرته على المناطق التي دمرها بالطائرات والقنابل والأسلحة المحرمة دوليا، وإدارة انتخابات وهمية أتت ببرلمان يعتمد فاتورة الاحتلال العسكري، بقيمة 22 مليار دولار، ليدفعها الشعب، وإن تبدل النظام.
ترك الأسد الساحة مفتوحة أمام الولايات المتحدة لاحتلال سهول الفرات الغنية بالغاز والنفط، وتسليح قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وبابا مفتوحا على مصارعيه أمام “داعش” والصهاينة وإيران وحزب الله وكل من هب ودب، بينما تزايدت قسوته وإتاواته على المواطنين.
خصوم الثورة
كان ملفتا أن يكون رهان الصين على بقاء حكم الأسد أكثر قوة من غيرها، حيث منحت نظامه دعما مطلقا داخل أروقة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، حتى تمكنت عبر ضغوطها المستمرة، من إعادة اعتراف الدول العربية الصديقة لها، بنظامه بعد 10 سنوات من لفظه شعبيا ورسميا.
بحكم العلاقات القوية مع السفراء الصينيين الذين تولوا أعمالهم بدمشق وحضور مناقشات موسعة مع أقرانهم بالقاهرة بالعشرية الأخيرة، أدركت أن رهان الصين على الأسد جاء رغبة منها في منع وقوع سوريا بيد الغرب، وخشيتها التضحية بمصالحها الاقتصادية المرتبطة بوجود أنظمة استبدادية، بينما أدت ثورات الربيع العربي إلى تدمير تلك المصالح وإخراج الشركات وآلاف الصينيين من ليبيا والعراق وسوريا وتونس هربا بخسائر فادحة.
ألصق الخصوم بالثورة السلمية صورا مشوهة، فابتعد عن الساحة الكثيرون من الأحرار الذين فضلوا النضال السياسي بالخارج، وهو ما ترك الساحة الداخلية شاغرة للقادرين على حمل السلاح.
الآن بعد أن وضع الثوار أيديهم على قصر الحكم الذي فر منه نظام الأسد ليلا، وكسبنا الرهان بنجاح الثورة بعد 13 عاما، نراهن من جديد على فطنة الشعب السوري، بقدرته على حماية ثورته وتضحياته، من انحراف القائمين بها نحو اقتتال داخلي أو اتجاه إيديولوجي خاطئ يبعدهم عن دولة العدل والقانون والحرية والمساواة بين المواطنين، والأهم أن تعود سوريا بحق دولة ممانعة وحائط صدّ في مواجهة المشروع الصهيوني لتقسيم سوريا وبلاد الشام والدول العربية برمتها.