لماذا تقتحم الشعوب القصور الرئاسية؟
![](/wp-content/uploads/2024/12/792901-01-02-1733745587.jpg?resize=770%2C513&quality=80)
عندما تسقط الأنظمة القمعية، يتكرر مشهد تاريخي مألوف، وهو اقتحام الشعب للقصور الرئاسية، ومقرات رجال الحكم ونهب محتوياتها، إنها دائما لحظات فارقة، تسعى الشعوب من خلالها إلى تأكيد انتصارها برمزية دخول الغرف الممنوعة، والتقاط الصور التذكارية فيها، وحمل كل ما يستطيعون حمله، حتى الأدوية والطعام. هذه المشاهد تكررت عبر التاريخ ومع كل الثورات الشعبية.
في قصر بشار الأسد، تجوّل الناس في مرآب السيارات، وغرف النوم، ومطابخ القصر، وصوّروا بهواتفهم مظاهر الترف المبالغ فيها. مشاهد السيارات الفارهة والمطابخ المجهزة بأحدث الأدوات كانت صادمة، خاصة أن هؤلاء المتظاهرين لم يكن باستطاعتهم الاقتراب من تلك الأسوار العالية، عندما كانوا يعانون من ظروف اقتصادية صعبة، وقمع متواصل، وحروب طاحنة دفعت الملايين منهم إلى الهجرة خارج أرض الوطن.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالكتيبة الإعلامية في غزة.. وطوفان الوعي
“جنين غراد”.. والفلسطيني المُستباح!
ورقة إعادة الإعمار.. سوريا وإيجاد الأرضية المشتركة
قصور الطغاة وسجونهم ليست مجرد مبانٍ فخمة؛ إنها رموز للقوة والسيطرة. بُنيت بأساليب دفاعية محكمة، شملت ممرات سرية وغرفًا محصنة ومنافذ للهروب. كان الطغاة يعلمون أن سلطتهم هشة، لهذا اهتموا بهندسة البناء لتكون القصور ملاذًا آمنًا يلجؤون إليه وقت الأزمات. لكن المفارقة أن هذه القصور، التي كانت رمزًا للعزلة والهيبة، تتحول في لحظة السقوط إلى مساحات عامة يتجول فيها الشعب بحرية لم تكن متاحة له من قبل.
من الثورة الفرنسية إلى الثورة السورية
في أكتوبر/تشرين الأول 1789، اقتحم الثوار الفرنسيون قصر فرساي، مقر إقامة الملك لويس السادس عشر، تحت تأثير الجوع والظلم الاجتماعي. لم تكن الثورة مجرد احتجاج اقتصادي، بل كانت أيضًا تمرّدًا ضد النظام الملكي الذي عزز الطبقية واستحوذ على الثروة. وفي روسيا عام 1917، كرر الثوار المشهد نفسه. اقتحموا قصور سانت بطرسبرغ وصادروا محتوياتها. وكانت الأسباب متشابهة: فقر، وظلم اجتماعي، وانعدام العدالة الاقتصادية.
وفي العصر الحديث، انتقل الحال إلى الثورات العربية وراح نفس السيناريو يتكرر، ففي السودان، بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019، اقتحم المتظاهرون القصور الرئاسية، حيث صُدموا بحجم الأموال التي عُثر عليها مخبأة في المكاتب. وفي مقر إقامته عثر على ملايين الدولارات نقدا في مشهد كشف حجم الفساد المستشري في النظام. ونفس المشهد كان في العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، إذ اقتحم العراقيون قصور الرئيس، وشاهدنا المقتنيات الفاخرة على الشاشات، وبعضها كان مصنوعًا من الذهب الخالص. كذلك، شهد قصر العزيزية في طرابلس، مقر معمر القذافي، اقتحامًا شعبيًّا عرضت خلاله المقتنيات الفاخرة،؛ مما كشف حجم الهوة بين حياة الحاكم وحياة شعبه. وبعد هروب الرئيس زين العابدين بن علي في تونس عام 2011، أظهر التونسيون للعالم محتويات قصره التي تضمنت ذهبًا ومجوهرات وأدوات رفاهية باهظة الثمن.
هكذا هو الحال دائما عندما يسقط الحاكم، لا تسقط القصور وحدها، بل تسقط معها رمزية النظام بأكمله. في سوريا، انسحب الجيش من الميادين، ولم يكن له أي دور فعال في حماية النظام، كما تحوّل المسؤولون الحكوميون، الذين دافعوا عن النظام بالأمس، إلى معارضين له اليوم. يحدث هذا التحول دائما في أنظمة الحكم الطاغية لأن الولاء لم يكن للدولة، بل للحاكم الفرد. لذلك، تنهار “دولة الفرد” معه، وتتحول القصور إلى أماكن يسعى الشعب لاستعادتها كرمز لاسترجاع السيادة. وفي المشهد السوري لم ينس الناس السجون وسرقت مشاهد تحرير السجناء التي كانت أشد تأثيرا الأضواء من مشاهد اقتحام القصور الرئاسية!
مراحيض ذهب في قصر شاوشيسكو
في رومانيا عام 1989، وقف الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو في شرفة قصره ليخاطب الجماهير المحتشدة، محاولًا تهدئتهم. لكن الجماهير لم تعد تصغي. دقائق قليلة كانت كافية ليقتحم المتظاهرون القصر الرئاسي في بوخارست، وعلى غرار كل الثورات أظهرت الصور من داخل القصر رفاهية مفرطة، بما في ذلك مراحيض مصنوعة من الذهب. تلك المشاهد زادت من غضب الشعب الذي عانى لعقود من القمع والفقر.
أما في سريلانكا فلم تكن مشاهد النهب هي الغريبة عندما اقتحم المتظاهرون القصر الرئاسي، بل كان المشهد الأبرز هو قفز المتظاهرين في المسابح الخاصة بالقصر، واضطجاعهم على الأسرة الفاخرة، وكأنهم أرادوا تذوق “حياة القصر”. لم يكن هدفهم السرقة، بل أرادوا الشعور للحظات بترف الحياة التي عاشها الحاكم بينما كانوا يعانون الجوع.
قصور الديمقراطية وقصور الدكتاتورية
في الأنظمة الديمقراطية، سقوط الرئيس لا يعني انهيار الدولة. تظل المؤسسات قائمة، وتظل القصور الرئاسية مراكز عمل وإدارة للدولة. على سبيل المثال، البيت الأبيض في الولايات المتحدة ليس ملكًا للرئيس، بل ملك للدولة، ويُدار بوصفه مؤسسة حكومية مستقلة.
أما في الأنظمة القمعية، فالقصور ليست ملكًا للدولة، بل تُعامل كملكية خاصة للحاكم وأسرته. لذلك، عندما يسقط الحاكم، تتعرض القصور للنهب، لأن الشعب يرى فيها رمزًا للفساد، ويرى في استعادتها استردادًا لحقه المنهوب.
الحاكم المستبد يظن دائمًا أن القمع سيضمن بقاءه في السلطة إلى الأبد. يعتقد أن الشعب خاضع، وأن قواته الأمنية كافية لحمايته. لكنه ينسى أن الولاء القائم على الخوف ليس ولاءً حقيقيًّا. عندما يسقط، تنهار معه كل “الولاءات”، لأنه لم يبنِ مؤسسات قوية، بل بنى دولة قائمة على الشخصنة.