التهجير ينهي “الاتفاقية”

في التهديدات الصهيونية المتكررة باجتياح عسكري لرفح الفلسطينية واحتلال محور فيلادلفيا تطور خطير في مسار حرب الإبادة على قطاع غزة التي دخلت شهرها الخامس.
وبأي معنى سياسي أو عسكري فإن دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى رفح الفلسطينية في عملية عسكرية موسعة، أو اقتحام المنطقة “ج” المنزوعة السلاح التي نصت عليها اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية -بما فيها محور فيلادلفيا- يعني عمليًّا انتهاء هذه الاتفاقية والإطاحة بها إلى ذمة التاريخ.
ومحور فيلادلفيا هو شريط أرضى بطول 14.5 كيلومتر، يقع على طول الحدود بين مصر وقطاع غزة، ويمتد من البحر المتوسط وصولًا إلى معبر كرم أبو سالم التجاري الثلاثي الاتجاهات بين مصر وإسرائيل وقطاع غزة.
هذا الشريط يقع بالكامل في المنطقة المنزوعة السلاح (ج)، بما يعني أن كل تهديد إسرائيلي باحتلاله كمقدمة لاجتياح رفح الفلسطينية بشكل كامل ليس له إلا تفسير وحيد هو أن الكيان المحتل يمارس “البلطجة” السياسية والعسكرية، ويقحم جيشه في مناطق ممنوع وجوده فيها بنص معاهدة دولية بعد أن قرر الدهس عليها بدباباته وإلقاء نصوصها إلى أقرب سلة مهملات.
والمؤكد أنه لا بديل أمام السلطة في مصر إلا التأكيد على المعنى نفسه الذي اختارته “إسرائيل” وإعلانه أمام العالم أجمع، أي انتهاء الاتفاقية في حالة الإصرار على اقتحام رفح بما يعنيه من تهجير أهالي غزة إلى سيناء، لتضع الجميع أمام مسؤولياته، على أن يكون الإعلان سريعًا وواضحًا وبلهجة حاسمة لا تقبل التردد، وبطريقة مختلفة عن كل ما مضى من تصريحات مصرية رسمية رافضة للتهجير.
قضيتان هما الأخطر
قضيتان هما الأخطر الآن على مائدة الدبلوماسية المصرية، وهما اختبار حقيقي للسلطة في مصر، أولهما التهديدات الصهيونية التي صدرت على لسان رئيس الوزراء نتنياهو باجتياح عسكري لرفح الفلسطينية التي يسكنها أكثر من مليون نازح، وهو ما يعني الضغط على هؤلاء النازحين لتهجيرهم من رفح إلى سيناء، حتى لو أخفى رئيس وزراء دولة الاحتلال نياته بالتأكيد على نقل النازحين قبل الاجتياح إلى مكان لم يضع له مسمى!
أما الثانية فهي رغبة جيش الكيان التي تظهر في تصريحاته وتحركاته كل فترة في احتلال محور فيلادلفيا -صلاح الدين- لفرض أمر واقع قبل الوصول إلى اتفاق نهائي بوقف الحرب، ليبدأ التفاوض من هذه النقطة، وليضع من الشروط ما يضمن سيطرته على هذا المحور مستقبلًا.
في تهديدات جيش الكيان باجتياح رفح الفلسطينية -أو احتلال محور فيلادلفيا- تراوحت التفسيرات والاجتهادات بين كونها تهديدات جادة تنوي إسرائيل تنفيذها بالفعل وبنفس منطقها المجنون والمنفلت من كل القوانين منذ بدأت حرب الإبادة على القطاع، في حين ذهبت اجتهادات أخرى للتأكيد على أن ما تردده إسرائيل لن يتجاوز مساحة التهديد الذي تضغط به على حركة حماس للقبول بإطلاق سراح الأسرى، والتوصل إلى اتفاق بسقف مطالب منخفض، وعلى الجانب الآخر تجبر السلطة في مصر على الضغط على “حماس” للموافقة على سرعة الإفراج عن الأسرى لديها، والقبول بالشروط الإسرائيلية في أي اتفاق للهدنة المؤقتة أو الوقف الكامل للحرب.
وبصرف النظر عن صحة الاجتهادات أو كون ما تفعله إسرائيل جادًّا أو مجرد تهديدات جوفاء فإن السياسة، ولا سيما قضايا الأمن القومي، لا تقبل التهاون ولا التردد ولا الارتكان إلى الاحتمالات، فكما جاءت التهديدات الصهيونية واضحة ومعلنة يجب أن يكون الرد المصري الرسمي على الدرجة نفسها من الوضوح والحسم، فحتى إذا كان المقصود الإسرائيلي هو ممارسة الضغوط فإن الرد السياسي الحازم هو الذي يرد الكرة إلى ملعب الاحتلال وعلى طريقة “هذه بضاعتكم رُدت إليكم”.
موقف معلن خارج الغرف المغلقة
في مواجهة التهديدات الإسرائيلية فإن أخطر ما يمكن فعله هو الاكتفاء بحوارات الغرف المغلقة وعدم إعلان موقف سياسي واضح ومبدئي، فلا شهود اتفاقات الغرف المغلقة مؤتمنون على أي اتفاق، كما أثبتت حرب الإبادة، ولا قضايا من هذا النوع يجب أن تخضع لأي مساومات أو مواءمات تطعن الأمن القومي المصري في الصميم، وتنتقص من قدرة مصر على الرد على ما يهدد حدودها واستقرارها، وتظهرها وكأنها تعطي ظهرها لكل الأصوات التي تطالب بموقف سياسي يردع الانفلات الإسرائيلي، ويحمي القضية الفلسطينية من التصفية بشكل نهائي، إذا وقعت الواقعة ومر مخطط تهجير أهالي غزة إلى سيناء.
في التأخير والتردد خطر داهم آخر لا يقل عن الصمت والاكتفاء بحوارات الغرف المغلقة، ففي العدوان الصهيوني المنفلت ما يشير إلى أن سيناريو التهجير واحتلال المحور يمكن أن يتم في أي وقت وبلا مقدمات، ووسط دعم غربي وأمريكي رسمي لم تخسره إسرائيل منذ بداية عدوانها وبرغم حرب الإبادة والإجرام المتواصلين في حق ملايين المدنيين من أبناء قطاع غزة.
بكل الحسابات السياسية الجادة فإن ما يوقف الجنون الإسرائيلي ويعيده إلى الرشد هو الإعلان العاجل عن موقف سياسي مصري مختصره: سنعيد النظر في اتفاقية السلام وسنعُدها منتهية في اللحظة نفسها التي يدخل فيها أول جندي إسرائيلي إلى رفح الفلسطينية أو محور فيلادلفيا، وسيدخل الجيش المصري إلى المنطقة “ج” -المنزوعة السلاح بنص الاتفاقية- حماية للأمن القومي ولفرض قواعد تضمن سيادة مصر على أراضيها بشكل كامل.
على أن هذا الموقف لا ينبغي أن يخرج على لسان “مصادر مجهولة” في وسائل الإعلام، ولا من خلال بيانات تصدر من الهيئات أو المؤسسات غير المعنية بهذا الأمر، بل إن هذا الإعلان يجب أن يصدر عن مؤسسة الرئاسة، ولعل اجتماعًا عاجلًا للبرلمان لتأكيد المعنى نفسه والمطالبة بإعادة النظر في اتفاقية السلام ما يقوي الموقف الرسمي ويؤكد الرسالة السياسية، فالرفض الخجول ضد البلطجة الصهيونية والتهديد بالتهجير لن يجدي نفعًا، ولن يردع جيش الاحتلال، وربما يقودنا إلى الندم الذي لن يفيد إذا ما باغتتنا الأحداث ووجدنا أنفسنا أمام واقع مرعب لا يمكن التعامل معه، والمؤكد أن دولة الاحتلال لن تحتمل المغامرة بعلاقاتها مع مصر، وأن الدول الكبرى لن تترك الأمور تنزلق إلى هذه المساحات الخطرة.
في اللحظات الفارقة لا مجال للتردد، ولا مساحات للمناورة السياسية، فلا ينبغي السماح للقيادة الإسرائيلية المهزومة بتحقيق نصر سياسي تصدّره إلى شعبها الغاضب على حساب مصر وأرضها وأمنها، ثم -وفي كل الأحوال- لا ينبغي أن تكون نهاية الحرب التي “مرمطت” كرامة المحتل في تراب غزة هي تصفية قضية فلسطين إلى الأبد، أو ترك المجرم نتنياهو ووزرائه الإرهابيين يفرضون كلمتهم وإجرامهم على مصر وحدودها وسيادتها.