الموقف الأمريكي!
بعد قرار محكمة العدل الدولية مطالبة إسرائيل وقف تشجيع جرائم الإبادة الجماعية ضد الغزيّين، اقترف جيشها 54 مجزرة خلال 48 ساعة، وما زالت المجازر تُرتكب والدماء الفلسطينية تُراق، حتى كتابة هذه السطور، ولتذهب قرارات الهيئة القضائية الأعلى للأمم المتحدة إلى الجحيم.
وبعد القرار ذاته بنحو 24 ساعة، ادَّعت إسرائيل اشتراك عدد من موظفي الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في هجمات طوفان الأقصى، فهرعت الولايات المتحدة حتى قبل بدء التحقيقات إلى وقف تمويلها للوكالة، وسرعان ما اقتفت خطوتها دول أوروبية ومعها اليابان وأستراليا وكندا، على الرغم من أن كارثة نقص الغذاء في غزة ضاقت واستحكمت حلقاتها، إلى حد أن الغزيِّين طحنوا ما تيسر لهم من أعلاف البهائم، بما فيها من شوائب وحشرات، ليصنعوا خبزًا يسد أرماق عيالهم.
وإذا افترضنا جدلًا صحة ادعاءات الاحتلال، وإذا أخذنا بالتوصيف الأمريكي الإسرائيلي المجافي للمواثيق الدولية، ذات الصلة بالحق الأصيل في مقاومة الاحتلال، فذهبنا تماشيًا مع ذلك، إلى أن عملية “الطوفان” عمل إرهابي، فإن ذلك لا يُسوِّغ العقاب بالتجويع جماعيًّا، مع ملاحظة أن عدد الفلسطينيين المسجلين لاجئين لدى الوكالة يبلغ 5 ملايين و900 ألف، لكن هذه هي الإدارة الأمريكية التي يفخر رأسها بأنه صهيوني، ويؤكد ذلك قولًا وعملًا.
ومن نافلة القول، إن التحالف الأمريكي الإسرائيلي في المنشط والمكره، منذ نكبة فلسطين وأيضًا قبل ذلك، أمر مفروغ منه، ولعل الكتابات التي تطرَّقت إلى أبعاده، تكفي لتغطية سطح الكرة الأرضية، وهي بالمناسبة ليست كتابات عربية فحسب، بل إن مفكرين غربيين كبارًا، وقفوا إزاء علاقة واشنطن وتل أبيب مستهجنين رافضين، ومنهم الأمريكي اليهودي ناعوم تشاومسكي الذي يرصد في كتابه “الدولة المارقة” أن بلاده تدعم اليمين الإسرائيلي المتطرف، في انتهاكاته حقوق الإنسان، بما يُقوّض صورتها المزعومة كراعية للديمقراطية في العالم.
غير أن الأمر في عهد الرئيس بايدن، تخطى عتبة الدعم إلى الشراكة، حتى أنها ليست مبالغة أن غزة الصامدة شعبًا ومقاومةً، تواجه عدوانًا إسرائيليًّا أمريكيًّا، يتبادل مقترفاه أدوارًا وظيفية، فمن لم يمت بقصف عشوائي للطيران الإسرائيلي، فليمت بالتجويع وحظر الدواء الذي تفرضه أمريكا وأتباعها.
توافق عربي رسمي ضد المقاومة
وعلى الرغم من أن قرار وقف المساعدات، كان يستوجب ولو على أضعف الإيمان، نَفْرَةً من الجامعة العربية، لإغاثة أولي القُربى والرحم، لكن مخبولًا لن ينتظر ذلك، فالجامعة محض انعكاس لسياسات الدول المنضوية تحتها، والمعلوم أن هناك أنظمة عربية “تُحنجل” في حانات “السلام الدافئ”، وتتطابق إرادتها مع إرادة مجرم الحرب نتنياهو بشأن تصفية المقاومة، بغية فتح أبواب التطبيع لأسباب ليس المقام مناسبًا لشرحها.
وعليه فإن التحسّر على خيول المعتصم، والتأسي على سيوف صلاح الدين، وما نحو ذلك من موروثات البكاء على الأطلال، لن تجدي نفعًا في استنهاض عزائم قاطني القصور السيادية العربية، إذ لا حياة لمن تنادي، وحيث إن معظمهم مشاركون بطريقة ما في العدوان على غزة، أو مع افتراض حسن النيات “باعوا القضية”.
واللافتُ أن دوائر صناعة القرار الأمريكية، تتعاطى مع القضية الفلسطينية، كما لو كانت محكومة بمعادلة ثلاثية، وليس واردًا تغيير تركيبها، فعناصرها أولًا آلة عسكرية إسرائيلية تقتل عشوائيًّا، وثانيًا انسحاق عربي تواطئًا أو عجزًا، وثالثًا شعب فلسطيني أعزل حتى من دعم الأشقاء، لا يملك إلا دماءه.
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات، تحوَّلت الولايات المتحدة إلى تنين بغير عقل، ينفخ النيران ذات اليمين وذات الشمال، مغرورًا بضخامته وقوته.