طوفان الأقصى والحوار بين الإسلاميين والقوميين

أظهر طوفان الأقصى تقاربا إن لم يكن تطابقا في موقف الإسلاميين والقوميين العرب، رفضا للعدوان الإسرائيلي، ودعما للمقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها حركة حماس المصنفة تقليديا كفرع للإخوان المسلمين في فلسطين. ظهر هذا الموقف منذ وقوع الطوفان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وترسخ على مدى الأشهر التالية، لكن الممارسة العملية على الأرض تنوعت من مكان إلى آخر، فبينما حدث التلاقي والتشارك في مظاهرات داعمة للمقاومة في الأردن بين الإخوان والقوى القومية العربية وهو ما تكرر في مواطن أخرى، إلا أن الأمر مختلف في مصر حيث لا يزال الفريقان أسرى لحالة الاستقطاب السياسي قبيل وبعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013.
كان الربيع العربي نقطة فاصلة في العلاقة بين التيارين الكبيرين في الوطن العربي، فقد شارك كلاهما في انتفاضات الشعوب العربية، لكن الثورات المضادة باعدت بينهما، ففي مصر لم يدم شهر العسل بين التيارين طويلا بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، تحالف بعض القوميين (حزب الكرامة بقيادة حمدين صباحي) مع الإخوان في الانتخابات البرلمانية (أواخر 2011) وفازوا ببعض المقاعد ضمن قائمة التحالف الوطني الديمقراطي الذي قاده حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية للإخوان)، ولكن حدث الافتراق بعد 6 أشهر فقط خلال الانتخابات الرئاسية التي تنافس فيها الطرفان إضافة إلى آخرين، حيث حل مرشح الإخوان (الدكتور محمد مرسي رحمه الله) في المرتبة الأولى في الجولة الأولى للانتخابات تلاه الفريق أحمد شفيق، وحل ثالثا المرشح الناصري حمدين صباحي، ما يعني أن جولة الإعادة كانت بين مرسي وشفيق، وكان ذلك بداية الصدع في علاقة امتدت عقودا قبل الثورة.
حوار ممتد من التسعينيات
بدأت مسيرة الحوار بين التيارين في الوطن العربي عموما في عام 1989 بدعوة وترتيب من مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وفي السياق ذاته دعا الكاتب الصحفي الراحل عادل حسين إلى حوار بين الشباب الإسلامي والشباب الناصري في مصر، واستضافه مركز الدراسات التابع لحزب العمل في حينه، كان عادل حسين المفكر اليساري السابق قد غادر المربع اليساري إلى الإسلامي خلال عمله في بيروت مراسلا لصحيفة الأخبار المصرية، ثم عاد إلى مصر منتصف الثمانينيات ليمارس العمل السياسي من خلال حزب العمل الذي كان بدوره امتدادا لحركة مصر الفتاة التي أسسها شقيقه أحمد حسين في الثلاثينيات، ونجح عادل حسين في تغيير التوجه السياسي للحزب من الاتجاه الاشتراكي إلى الإسلامي، ثم طرح دعوته للحوار بين الإسلاميين والناصريين مطلع التسعينيات، وشارك في تلك الحوارات رموز من القيادات الشبابية للتيارين، أمثال حمدين صباحي وكمال أبو عيطة وعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان ومجدي قرقر ورفعت سيد أحمد وآخرين، وأذكر أن إحدى نتائج تلك الحوارات التي سمعتها بنفسي من الفريق الناصري هو الاعتراف بأخطاء التجربة الناصرية في مجال الحريات، لكن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وقد تحسنت العلاقات بين هذا الفريق من الناصريين الذي كان يقوده في ذلك الوقت فريد عبد الكريم وعبد العظيم مناف (رحمهما الله) وحمدين صباحي، مع حزب العمل وبعض القيادات الشبابية الإخوانية، وأذكر في هذا السياق أن تحالفا انتخابيا جرى في نقابة الصحفيين كنت طرفا فيه أسفر عن فوز المرشح الإخواني صلاح عبد المقصود والناصري يحيي قلاش مطلع التسعينيات، ثم تعزز هذا التحالف في الانتخابات التالية ليسفر عن فوز 8 مرشحين مناصفة للطرفين في أعلى تمثيل معارض داخل النقابة حتى الآن، كما أذكر أن الإخوان سحبوا مرشحهم من إحدى الدوائر الانتخابية البرلمانية لصالح القيادي الناصري حمدين صباحي بدءا من عام 2000.
مع تصاعد المعارضة السياسية لحكم الرئيس مرسي كان التيار الناصري في صدارة المشهد المعارض، وتاليا كانوا في صدارة الداعمين للانقلاب العسكري، وروج بعضهم أن السيسي هو خليفة عبد الناصر، ولكن الحال لم يستمر مع بعضهم -على الأقل- الذين أصبحوا الآن ضمن المعارضين لسياسات النظام منذ أزمة تيران وصنافير، وزادت معارضتهم له بسبب الموقف من العدوان على غزة.
هل يجرف الطوفان الخلاف؟
التنابذ والاشتباك السياسي بين الإسلاميين والقوميين لا يزال حاضرا في دول أخرى مثل السودان وتونس وبعض الدول الخليجية، لكن طوفان الأقصى فرض نفسه على الجميع كأولوية سياسية في الدعم والإسناد للمقاومة الفلسطينية التي للمفارقة أيضا تضم إسلاميين وقوميين ويساريين، فحتى وإن كانت حماس والجهاد هي المتصدرة للمشهد المقاوم إلا أن المشهد يتسع لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى (الجبهة الشعبية) وكتائب شهداء الأقصى وكتيبة جنين.
التقارب في ملف دعم المقاومة الفلسطينية يفتح الباب لاستئناف الحوار بين التيارين الكبيرين، ويمكن لمركز دراسات الوحدة العربية أن يعود لإحياء هذا المسار الذي دشنه منذ عام 1989، كما يمكن للمؤتمر القومي الإسلامي، الذي انطلق عام 1994 وانعقد إلى الآن 11 دورة، أن يقوم بدور أكبر في فتح قنوات حوار بين التيارين في بعض الدول التي لا يزالان متصارعين فيها.
يُذكر أن المؤتمر عقد دورته الحادية عشرة في بيروت في يونيو/حزيران 2022 بحضور 200 شخصية يتقدمهم رموز كبرى من التيارين، ودعا إلى رص صفوف قوى المقاومة بكل أشكالها المدنية والمسلحة في مواجهة العدو الصهيوني الأمريكي، وضرورة تفعيل الحوار بين جميع مكونات الأمة، خاصة بين القوى القومية والإسلامية، وتعزيز المشترك والعمل على تجاوز الخلافات والتباينات بينهما، لتحقيق رؤية موحَّدة تجاه قضايا الأمة الأساسية، وفي مقدمتها تحرير فلسطين ومقدساتها.