مقابلة “بوتين” مع “كارلسون”.. حضر الرئيس فأين المذيع؟

تاكر كارلسون في مقابلته مع الرئيس الروسي بوتين بالكرملين (الفرنسية)

كعصفور رقيق أو كحمل وديع أو مثل قط أليف، أدار الإعلامي الأمريكي “تاكر كارلسون” مقابلته المهمة مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قبل أسبوع، وعلى طريقة معلقي مباريات كرة القدم عندما يلتقي فريقان ويكون أحدهما مهاجمًا بشراسة والآخر مستسلمًا برخاوة، فإن التعليق الدارج أن الفريق الأخير لم يحضر إلى المباراة أصلًا، وقد كان هذا بالضبط هو حال الإعلامي الأمريكي ذي التوجهات اليمينية الواضحة، الذي ترك ضيفه الرئاسي يتحدث وكأنه في محاضرة، وليس في مقابلة حوارية تحتاج الأخذ والرد والمجادلة والمقاطعة أحيانًا إذا لزم الأمر.

وفي خلال ساعتين تحدث بوتين كثيرًا ولم ينطق تاكر إلا قليلًا، وقدّم الرئيس الروسي دروسًا مطولة في التاريخ حول جذور ما يمكن وصفه بـ”المسألة الأوكرانية”، فيما كان بعض ما قاله خلفية يُفترض أن ترد على لسان “تاكر” نفسه كمقدمة للأسئلة التي لم يقلها، وذلك لو أعد نفسه جيدًا لمقابلة “الثعلب” الروسي العجوز.

“عفوًا.. هل يمكنك أن تخبرنا في أي فترة كان ذلك؟ لم أعد أعرف إلى أين وصلنا في التاريخ؟”.. يسأل المذيع الأمريكي الشهير وقد بدا تائهًا وربما جاهلًا عندما أغرقه الرئيس الروسي في خضم الأحداث التاريخية، وتحدث عن تدخلات بولندا في أراضٍ تابعة لأوكرانيا حاليًّا ويسكنها روس لكن بولندا تعاملت مع سكانها بشدة، وحاولت إضفاء الطابع البولندي على السكان فبعثوا رسائل إلى “وارسو” يطالبون فيها باحترام حقوقهم.

ومثل لاعب كرة محترف يجيد فن المراوغة، استطاع بوتين أن يتلاعب بالمذيع الأمريكي الوديع عندما سأله “أنت تقول إن أوكرانيا أو أجزاء معينة من شرقي أوكرانيا كانت في الواقع تابعة لروسيا منذ مئات السنين، فلماذا لم تسترجعها عندما أصبحت رئيسًا قبل 24 عامًا؟ لديك أسلحة نووية وهم لا يملكونها، إنها في الواقع أرضك لماذا انتظرت كل تلك الفترة؟”.

كان رد الرئيس الروسي ناعمًا لكنه أعاد الجميع (المذيع والمشاهد) بهدوء إلى محاضرته التاريخية “سأخبرك، سأصل إلى ذلك، فهذه النبذة أوشكت على الانتهاء، قد تكون مملة لكنها تفسر أمورًا كثيرة”.. وبلطف شديد رد المذيع الأمريكي “ليست مملة” مما شجع “بوتين” على الاستمرار لكنه قبل أن يفعل ذلك رد بلطف أشد “جيد جيد، أنا ممتن جدًّا لأنك تقدّر ذلك، شكرًا لك”.

كان الود الظاهر والمتبادَل في الربع الأول من اللقاء كفيلًا بأن يسمح للسياسي الروسي ورجل المخابرات السابق باستدراج مضيفه الإعلامي الأمريكي لمقابلة بدون اشتباك، ولأسئلة بدون أنياب.

بوتين يركض

وبعد أن استعرض “بوتين” تعاون بولندا مع الزعيم النازي “أدولف هتلر”، وكيف أن أراضي كثيرة كانت تابعة لروسيا واستعادتها بعد الحرب العالمية الثانية، حاول “كارلسون” أن يعيد سؤاله الذي لم يتلق عليه أي إجابة وذلك بعد أن أشاد بغزارة معلومات ضيفه “أرى أن لديك معرفة موسوعية بهذه المنطقة لكن لماذا لم تطرح هذه القضية طوال الـ22 عامًا الأولى من رئاستك؟ إن أوكرانيا ليست دولة حقيقية”.

لكن بوتين استمر يركض عبر معلوماته التاريخية مثل دب قطبي، واستمر خلال مداخلات مطولة يشرح كيف أن أوكرانيا كلمة روسية معناها “سكان الأطراف”، وكيف أنها جزء من الأراضي الروسية، وكيف أنه لا يفهم لماذا أصر الزعيم الشيوعي “جوزيف ستالين” على منح الدول الناشئة حديثًا وقتها (ومنها أوكرانيا) حق الانسحاب من الاتحاد السوفيتي.

حاول “كارلسون” أن يعود إلى سؤاله بصيغ مختلفة لكن “بوتين” كان قد امتلك ناصية الحوار ووجّه كل إجاباته إلى ما أراد أن يبلغه للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية عبر هذه المقابلة بصرف النظر عن طبيعة الأسئلة التي يلقيها المحاور.

وبالطبع فقد رحّب الإعلام الروسي بالمقابلة وبمن أجراها، ونشر الفيلسوف الروسي “ألكسندر دوغيني” الملقب “عقل بوتين” مقالًا في مجلة “أركتوس”، قال فيه إن “تاكر كارلسون شخصية رمزية، إنه الآن الرمز الرئيسي لأمريكا التي تكره (الرئيس جو) بايدن والليبراليين والعولمة، وتستعد للتصويت لصالح (المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد) ترامب”.

أما هناك في واشنطن، فلم تكن الإدارة الأمريكية تحتاج إلى المقابلة وما يمكن أن تطرحه من جدل في هذا التوقيت الحرج الذي تحاول فيه تمرير حزمة مساعدات مالية وعسكرية جديدة في الكونغرس لأوكرانيا، ولذلك فإن ردود فعل غاضبة لدى الإدارة الأمريكية ودوائر الحكم في واشنطن أثارتها المقابلة عبّر عنها منسق الاتصالات الاستراتيجية بالبيت الأبيض “جون كيري” الذي قال إن البيت الأبيض على يقين بأنه لا يمكن إقناع الأمريكيين من مقابلة واحدة، وطلب منهم عدم الإنصات إلى ما يقوله الرئيس الروسي بوتين.

شبكة (ABC NEWS) الأمريكية وصفت اللقاء بأنه “ترويج للرواية الروسية بشأن الحرب مع أوكرانيا”، ورأت أن الرئيس الروسي “أمطر” كارلسون، الذي لم يتحداه كثيرًا خلال اللقاء، بـ”معلومات عن تاريخ روسيا”.

ردود الفعل لا ترجع لما قاله الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، فتوجهه معروف، ولكن بسبب ما لم يقله المذيع الأمريكي المقرب من الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، فقد ترك “تاكر كارلسون” ضيفه يتحدث في إحدى مداخلاته لمدة 20 دقيقة كاملة دون مقاطعة.

جرائم القوات الروسية

وبالرغم من طول المقابلة نسبيًّا (120 دقيقة) فإن أسئلة كثيرة كانت تستحق أن تظهر في المقابلة، لكن الأرجح أن إجاباتها ستكون محرجة للرئيس الروسي أو كاشفة لمواقفه، خاصة أنها من نوعية لا يمكن أن توجَّه إلى بوتين من الإعلام الروسي الذي يمجد بوتين ويسير في اتجاه واحد تقريبًا مؤيد له ولسياساته.

وعلى سبيل المثال، فإن ما يتردد من مزاعم عن ارتكاب القوات الروسية جرائم حرب في “بوتشا” و”ماريوبل”، وما تثيره المعارضة الروسية من قمع المعارضين وملاحقتهم وربما تصفيتهم، وما تثيره الصحافة الغربية عن سجل روسيا في مجال حقوق الإنسان والانتخابات الرئاسية في روسيا واستبعاد المرشحين المحتملين أمام بوتين لأسباب قد لا تبدو مقنعة، كلها ملفات غابت عن المقابلة، ولم يكن هناك سبب مهني لتجاهل أسئلة حولها في مقابلة مهمة كهذه.

وبالنسبة لنا -صحفيين وعربًا- فإن العدوان على غزة رغم بشاعته وفداحته وكارثية نتائجه على الشعب الفلسطيني الأعزل، وبرغم أن هناك تمايزًا بين موقف روسيا والغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من الحكومة المتطرفة التي تحكم إسرائيل ومن طريقة حل الصراع ووقف جرائم الحرب التي ترتكبها حكومة “بنيامين نتنياهو”، فقد غابت أي إشارة عن الصراع العربي مع الكيان الصهيوني أو حتى عن تداعيات الحرب الدائرة في غزة على الاقتصاد العالمي بعد تدخلات الحوثيين في البحر الأحمر على خلفية الحرب وحصار غزة.

وفي المقابل، استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشرح باستفاضة كيف تطور الاقتصاد الروسي رغم الحرب، وذكر أرقامًا كثيرة، وعرج على وضع الدولار كعملة دولية وسدد لها سهامه، وشرح وجهة نظره في توقف ضخ الغاز الروسي لأوروبا وفي مجموعة “بريكس”، وألمح إلى خوف الغرب من الصين وعدم تأثر بلاده بالعقوبات الغربية، كما وجّه ضربات إلى الأجهزة التي تدير الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وأشار إلى أن السياسيين المنتخبين ليسوا من يقررون في النهاية، وقدّم أمثلة من مواقف له مع رؤساء أمريكا، وتحدث عن الذكاء الاصطناعي والمسيحية الأرثوذكسية وحرب الجواسيس مع الولايات المتحدة الأمريكية.

أين المذيع؟

ولم ينس بوتين أن يتحدث عن الوثائق التي قرأها والتي يحتفظ بها والتي يدعو إلى قراءتها، وعن الأرشيف الذي يضم ما يدل على صدق كلامه، دون أن يجاريه المذيع الأمريكي في ذلك.

صال بوتين وجال، ووجّه رسائل كثيرة مررها له الإعلامي الأمريكي “تاكر كارلسون”، أهمها أن هزيمة روسيا في الحرب وهم، وأن ما يجري في أوكرانيا ليس غزوًا خارجيًّا وإنما “حرب أهلية” في وطن واحد.

المراجعة الدقيقة لكل ما قيل في المقابلة يكشف أنها ذات غرض سياسي بامتياز، إذ تم حشد كل تفصيلة فيها لشرح الرواية الروسية من الحرب في أوكرانيا، وهي الملف الأبرز للخلاف الحالي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وإذا كانت توجهات المذيع جمهورية دون شك ورأيه يقترب من الرواية الروسية، فإن المحصلة تُعَد عملًا دعائيًّا بامتياز.

المقابلة التي شاهدها الملايين من المتابعين عبر المنصات المختلفة أثبتت حضورا قويًّا وطاغيًا دون شك للرئيس بوتين، لكنها تطرح سؤالًا مهنيًّا: حضر الرئيس فأين المذيع؟

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان