من يشتري منا الهرم؟!

الجرأة الصادمة التي أبداها المسؤول الأول عن الآثار في مصر وهو يعلن عن نيته تبليط الهرم الأصغر تحت شعار “مشروع القرن” تشير إلى موطن الداء.
فالحدث الذي أثار الجدل والرفض والدهشة من المختصين والمهتمين وحتى غيرهم من عامة الناس، كان مجرد مظهر من مظاهر تصاعد موجات التسليع و”الرسملة” في مصر، والاجتياح شمل كل شىء بما فيها معالم التاريخ والحضارة والآثار والأرض والمواقع الاستراتيجية والمباني التاريخية التي لا تُقدَّر بمال ولا يمكن لعاقل بيعها، وقد امتدت “الرسملة” والتسليع كمقدمة للتفريط وشملت حتى القيم والمواقف.
لا أبيع بعضي بكلي
هكذا قال الشاعر العراقي السيد عبد الغفار الأخرس لطبيبه الذي ذهب إليه في الهند لإصلاح لسانه وحل لكنته، فقد قال له الطبيب “سنعالج لسانك بدواء فإما أن ينطلق وإما أن تموت”، رد عليه الشاعر “لا أبيع بعضي بكلي”، وقفل عائدا إلى بغداد. هذا ما يفعله العقلاء، لا يبيعون بعضهم بكلهم، فلا يطرحون حضارتهم وتاريخهم وأرضهم وقيمهم ومواقفهم كسلع رأسمالية معروضة ضمن اقتصاد السوق بأسعار تنشئها قوى العرض والطلب.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن يُشعل النيران في الشرق الأوسط؟ قراءة في مصادر الصراع
علمانية الطوائف السورية
طلقات حاخام: القومية نزعة شريرة والصهيونية “أخلاقية”
وقد نجح الشاعر الراحل أمل دنقل في ديوانه “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” في تبسيط معنى أن تكون هناك قيم وأشياء لا تُقدَّر بمال ولا يمكن بيعها كما يستحيل شراؤها، فقال:
أتُرى حينَ أفقأُ عينيكَ
ثمَّ أثبّتُ جوهرتين
مكانَهما
هل تَرى؟
هي أشياء لا تُشترى
دوافع التسليع و”الرسملة”
صدق عبد الرحمن الكواكبي حينما أكد في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” أن المستبدين لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال، ولكن المال كما يقول إلكسندر دوماس “خادم جيد لكنه سيد فاسد”. وفي سبيل السعى إلى المال واعتباره غاية لا وسيلة، تتسلع في الطريق كل القيم والمعاني والمواقف والحضارة والتاريخ، فكما يقول الكاتب محمد الماغوط في كتابه “سأخون وطني” (بعد أن أتى الجراد السياسي في الوطن العربي على الحاضر والمستقبل، يبدو أنه قد التفت إلى الماضي، وذلك حتى لا يجد الإنسان العربي ما يسند ظهره إليه في مواجهة الأخطار المحيطة).
ولعل ذلك ما يفسر كيف تجرأت معاول الهدم وجرافات الكشط والتدمير على مقابر القاهرة التاريخية التي تمثل قيمة تاريخية وتراثية لا تُقدَّر بمال، إذ يعود بعض مبانيها إلى أكثر من ألف عام، وتُشكل تراثا إنسانيا وتاريخيا لا يحق لأحد العبث به، إلا أن ذلك لم يمنع من تسويتها بالأرض رغم ما تحويه من مقابر معظمها ذات طابع معماري ورفات معظم الشخصيات المصرية المهمة على مدار أربعة عشر قرنا، والغريب أن أعمال الهدم تزامنت مع نشر الأخبار التي تشير إلى بيع أرض النفائس التاريخية إلى شخص محدد لإنشاء “مولات” ومشروعات استثمارية.
دفع الإيجار قد حل
المؤسف أيضا أن هناك من يجند إعلاميي المرحلة لتبرير فعلة التفريط في الأصول الحضارية والتسليع للآثار والقيم والمواقف، بحجة وجود أزمات اقتصادية خانقة يعانيها المواطن المصري. وقد جعلني هذا التسليع الشائن البخس غير المبرَّر أكثر تعاطفا وتفهما لتسليع آخر ما زلت أتذكر قصته الخبرية رغم مرور سنوات منذ أن قرأتها، وكان عن تجارة رائجة في ميانمار تدر ملايين الدولارات، وتتمحور حول بيع شعر النساء للتجار الذين يصدّرونه بدورهم إلى الصين وغيرها من الدول. وقد وصفت القصة فتاة (15 عاما) اغرورقت عيناها بالدموع بعد أن تركت شعرها الأسود الطويل اللامع على الطاولة إثر قصه وتسريحه على يد خبير، وقد حاول التاجر الذي اشترى شعر الفتاة ببضع عشرات من الدولارات أن يواسيها بعد أن استشعر حزنها، فقال “كأنك حصلتِ على قصة شعر وتلقيتِ مبلغا من المال”، إلا أن الفتاة الباكية أجابت وهي تنصرف “الأمر مؤلم ولكن موعد دفع الإيجار قد حل”!
فهل باتت الدول العريقة ذات الحضارات السحيقة تسوق مواقف وحجج الصبايا اليتيمات.
التفريط في الثوابت
وما يحدث من تسليع للقيم والمواقف والثوابت والمقدسات والمقومات الحضارية، هو لب التفريط في الثوابت والتضييع للأمانة. والتفريط بخلاف التعدي، فالتفريط هو ترك ما يجب من الحفظ، أما التعدي فهو فعل ما لا يجوز من التصرفات. ولذا فإن حرمة التفريط في الثوابت أكثر جرما وأشد وطأة إذا صدرت من أهل الحكم قبل العوام، فالفعلة بمثابة خط أحمر وخيانة للأمانة ولأمور المسلمين، فالثوابت كما قيل حاكمة لا محكومة، ويخضع لها الواقع ولا تخضع هي للواقع.
وربما هذا ما جعل السلطان عبد الحميد الثاني يمتنع عن تسليع أرض فلسطين، مدركا هول جريمة الوقوع في فخ التفريط في الثوابت رغم المغريات المطروحة في ظل الأوقات العصيبة، ولذا قال “إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما ملك للأمة الإسلامية”، وقد جاء ذلك ضمن رده على تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية عندما طالب بمنحه أرض فلسطين لتكون وطنا قوميا ليهود العالم، وقد كتب عبد الحميد تفاصيل صراعه ومداولاته مع اليهود في كتابه (مذكراتي السياسية).
ويؤكد العديد من المصادر أن هرتزل زار السلطان عبد الحميد ومعه صحبة من قيادات الجالية اليهودية، وبعد مقدمات مفعمة بالنفاق، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءات المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالا طائلة مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، إضافة إلى تحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضد السلطان في صحف أوروبا وأمريكا، لكن السلطان رفض بشدة قائلا لهم “ما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع، وربما إذا تفتت إمبراطوريتي يوما، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل، لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي بل هي ملك شعبي”.