حكم الطلاق الصوري لأجل معاش الدولة
هناك سؤال يزداد طرحه بشكل لافت للانتباه في آخر خمس سنوات في مصر تحديدًا، وهو: حكم طلاق الزوجة صوريًا من زوجها عبر الأوراق الرسمية، ثم العودة للحياة الزوجية عرفيًا دون عقد رسمي، وذلك بغية الحصول على معاش الوالد المتوفى، للحاجة المالية، وكلما زادت الحالة الاقتصادية سوءًا زاد التساؤل، وكثرت حالاته، فقد كان منذ سنوات يأتيني مرات قليلة في الشهر، الآن أصبح السؤال أسبوعيًا وبشكل مستمر وبكثرة ملحوظة.
وكانت صورته السابقة في المجمل العام: الزواج عرفيًا للأرملة حتى لا تخسر معاش الزوج المتوفى، وهي بحاجة لزوج لحاجتها الطبيعية كأنثى، وبحاجة للمال لأن الزوج المتوفر -حاليًا بعد الزوج المتوفى- ظروفه المالية لا تسمح له بالنفقة.
وكانت هذه الحالة من الطلاق الصوري على الورق الرسمي، بينما عودة الزوجين عرفيًا أي زواج بلا توثيق، تحدث في بعض المناطق التي يريد بعض الأبناء المرفهين أو الرافضين لدخول الجيش المصري لأداء الخدمة العسكرية، فيكون هو الأكبر لإخوانه، ولأن قوانين التجنيد في مصر، تعفي فقط: وحيد أبويه، أي: ابن ذكر وحيد، وليس له إخوة ذكور، أو له إخوة بنات فقط، والحالة الاستثنائية الأخرى عند وجود أبناء ذكور، ويريد الابن الأكبر عدم دخول التجنيد، فيطلق الأب الأم في الورق الرسمي، ويردها لعصمته دون توثيق، كي يكون الابن الأكبر عائلًا للأم المطلقة رسميًا على الورق، عندئذ يعفى من التجنيد، وبعد اجتياز الابن مرحلة التجنيد، وسنوات الاحتياط، يردها الأب لعصمته رسميًا.
فتاوى تتعلق بالأرملة ذات المعاش:
معظم الفتاوى التي صدرت في الموضوع تتعلق بالمرأة الأرملة التي توفي زوجها، وتتزوج عرفيًا، لتحصل على المعاش المالي، ولكن الجديد هو ما بدأ كثيرون في فعله، ليس في المدن فقط، بل وصل إلى القرى والأرياف، فأصبح السؤال متكررًا بكثرة ملحوظة، من إقدام زوجين على الطلاق الصوري لأجل الحصول على معاش والد الزوجة، كثيرون يسألون قبل الإقدام على الخطوة، وقليلون يفعلونها ثم يسألون.
علي جمعة يجيز:
من الجهات الإفتائية التي تعرضت للموضوع: دار الإفتاء المصرية، في فترتين متتاليتين، أولاهما: للدكتور علي جمعة المفتي السابق، وثانيتهما: للدكتور شوقي علام المفتي الحالي، وفتواهما متعارضتان، فالأول يجيز الفعل، والآخر يحرمه. أما علي جمعة، فيجيز الزواج العرفي، بل ولا يرى حرمة في حصول المتزوجة عرفيًا على معاش زوجها أو والدها المتوفى، معللًا ذلك بأن العقد العرفي لا يوجب على الزوج الإنفاق على زوجته، ولها أن تحصل على المعاش، وأن للمرأة حقًا في التزوج عرفيًا لتكون في حد العفاف بعيدًا عن الفاحشة، وتحتفظ في الوقت نفسه بالمعاش المقرر لها، وأن تلك ثغرة في القانون، ويمكن أن نستغل فوارقه لمصلحة المواطن، حيث يرى أن قانون المعاشات حاليًا قانون متخلف، ولا يراعي حاجات الناس الحقيقية.
وشوقي علام يحرم:
وأما شوقي علام، فله فتوى بعنوان: حكم عدم توثيق الزواج للاحتفاظ بالمعاش والحضانة، قد كتب جوابًا عن السؤال، فقال: (تشترط الدولة في صرف المعاش للمرأة أن تكون غير متزوجة؛ وذلك بموجب قانون المعاش في المادة رقم (544) لسنة 2007م، والتي يتلخص نصها في: عدم أحقية الرجل أو المرأة المتوفى عنهم زوجهم في استحقاق المعاش في حالة زواج الرجل بامرأة أخرى، وزواج المرأة برجل آخر.
فإذا كانت العلة في عدم توثيق الزواج هي المحافظة على استمرار المعاش والحضانة، وعدم انقطاعهما، فإن هذا الفعل يكون من باب أكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه عن غير استحقاق، ويكون من باب الكذب والتحايل، والتدليس كذلك).
فتوى متزنة للدكتور محمد البهي:
وسئل الدكتور محمد البهي المفكر والعالم الأزهري الراحل، عن الموضوع، وهو متعلق بالأرملة التي تريد الاحتفاظ بالمعاش لحاجتها للمال، وحاجتها للزوج، واضطرارها لعدم الإعلان عن الزواج، نجده الوحيد بين من أجابوا من تطرق لواجب الدولة نحو الناس، وخطورة مثل هذا الواقع على المجتمع، فقال -رحمه الله- بعد أن بيّن أن المسألة تنطوي على أمرين خطيرين بالنسبة للمجتمع: تهرب الزوج من المسؤولية المادية، وتستر المرأة على زواجها وحاجتها المادية:
(والأمران معًا في سبيل احتفاظهما بنصيب المرأة في معاشها من زوجها المتوفى، وربما لو أن قانون المعاشات كان يبيح –وليس هناك مانع من أن يبيح ذلك لهدف اجتماعي وأخلاقي– للزوجة المتوفى عنها زوجها، حصولها على حقها في معاشه حتى بعد زواجها من آخر بعده، لما أقر كثير من الناس هذا الوضع الذي يطرحه السائل في سؤاله الآن، ولما باشره إلا القليل الشاذ.
وإذا كان من كلمة تقال هنا فإنها تقال أخيرًا للدولة التي شعارها: العلم والإيمان.. وهذه الكلمة: يجب أن يعدل نظام الإرث في المعاش حتى لا يضار الإنسان أو لا يضطر إلى حماية المفاسد، في سبيل الحفاظ على لقمة العيش).
تعقيب على الفتاوى السابقة:
نرى أن الفتاوى كلها التي صدرت تتعلق بحالات معينة وهي الزواج عرفيًا، دون توثيق، بغية الحفاظ على المعاش الذي تتقاضاه عن الزوج المتوفى، فإن السؤال الجديد مختلف تمامًا، فهو يتعلق بزوجين لا يرغبان في الطلاق، ولكن الظروف المالية تضطرهم للطلاق الصوري، لنيل الزوجة معاش الأب المتوفى، أو الأم المتوفاة، لتعين به زوجها على مصاعب الحياة، التي صارت تنتقل من الضيق للأضيق.
معظم الفتاوى التي حرمت هذه المسألة، بل أوقعت الطلاق ولو كان صوريًا، استدلوا عليه بطلاق الهازل، والحقيقة أن تكييف المسألة على طلاق الهازل ليس صحيحًا، وتكييفه الحقيقي أنه طلاق صوري، أو طلاق شكلي للاضطرار، فطلاق الهازل شخص يهزل بالطلاق، ويتخذه غرضًا للتلهي أو الهزل، لكن أصحاب هذه الحالات ليسوا هازلين، بل يفعلون ذلك بمرارة في حلوقهم، فالإجراء مهين ومذل ومؤلم للزوجين.
فتوى دار الإفتاء الأخيرة لشوقي علام، اعتمدت على ما يحقق مصلحة السلطة، ولم تنظر لحاجة من يلجأ لذلك الفعل، أو تحدثت عن هذا المبرر وراعته، فكان يمكنها أن تنتهي للتحريم كما أفتت، لكنها تعلم أن مبررات الناس لذلك مبررات مقدرة، من باب حاجة الناس المادية، في ظل عوز وفقر شديدين يضربان المجتمع في هذه المرحلة.
وأضبط الفتاوى الصادرة في الموضوع، هي فتوى الدكتور محمد البهي، رغم عدم شهرته بالإفتاء، بل اشتهر بالفكر والفلسفة وعلم الاجتماع، بجانب شهرته مفكرًا إسلاميًا، لكنه غطى جوانب الموضوع من الجهة النصوصية، ثم ما يتعلق بالمواطن الزوج، وما يتعلق بالدولة نحو المواطن.
رأينا في الموضوع:
تظل الفتاوى السابقة متعلقة بحالة واحدة، ولكن السؤال الجديد: عن طلاق زوجين، وليس عن زواج غير متزوجين زواجًا عرفيًا للانتفاع بالمعاش، بل السؤال الجديد والخطر في آن واحد، يتعلق بطلاق أزواج صوريًا، ثم عودتهما للحياة الزوجية بسبب الحاجة المادية.
وما نراه في هذا الموضوع، أنه مع تقديرنا لحاجة الناس، واحتياجهم الشديد، لكن ذلك لا يجعل أول ما يفكر فيه الناس هو المؤسسة المهمة في الإسلام والحياة، وهي: الأسرة، والتي سماها القرآن الكريم: الميثاق الغليظ، الذي لا تنفصم عراه إلا بسبب وجيه وقوي، وعلى الأزواج تجنب هذا الحل ما استطاعوا إليه سبيلًا، لأنه يجعل الأسرة كيانًا يوضع في كفة أمام الاحتياجات المادية، والأولى عدم ذلك.
كما أن هذا الطلاق الرسمي سيحسب عند الدولة طلاقًا، ويعد واحدة من الطلقات المستحقة شرعًا للزوجين، وهو ما يؤدي إلى إرباك الحياة الزوجية فيما بعد في إجراءات مختلفة، فلو مات هذا الزوج، ستكون الزوجة التي ضحت بأن تكون مطلقة رسميًا ولو صوريًا، لن تستحق بالقانون الإرث، ولن تستحق أي حق مادي عند الاختلاف، أو تغير أخلاق الزوج، ففي الموضوع نواح مهمة تتعلق بحالة الزوجة فيما بعد، فإذا كانت الزوجة قد فعلت ذلك إنقاذًا منها لحالة الزوج المادية، فإن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، بل ستتعدى آثاره آخرين.
هناك من يجيز هذا الفعل من باب الضرورة المادية، وتلبية حاجات الناس التي جعلتهم في حرج من أمرهم وحياتهم، ولكن هذا الرأي ينبغي أن يظل في إطار الضرورة التي قال عنها المولى تبارك وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فالمهم هنا في الضرورة: عدم البغي والعدوان، سواء على النفس أو على الآخرين، والآخرون هنا: الزوجة والأولاد.
وهناك قاعدة أخرى في الضرورات لا بد أن توضع في مثل هذا الموقف، وهي قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها، أي: لا بد من أن تكون الضرورة على قدر الحالة، فإذا انتهت انتهى الأخذ بها.
جانب مجتمعي مهم في الموضوع:
تحدثنا في المقال عن جانب الزوجين اللذين يقدمان على هذا الفعل، نظرًا للظروف المادية، ولم نتحدث عن دور الدولة أو السلطة في ذلك، لأنه سياق آخر، يحتاج لحديث آخر، فليس الهدف الوحيد من المقال: طرح الرأي الفقهي هنا فقط، بل إن هناك أهدافًا أخرى يستفيد منها دارسو علم الاجتماع، وعلم اجتماع الفتوى، وعلاقة المواطن بالدولة، وعلاقة المواطن بالقانون، وعندما يتعارض القانون مع الفتوى، ما الذي يترجح لدى المواطن؟ هل يلتزم بالقانون، أم يلجأ للفتوى ويتمسك بها؟ وهي سياقات وموضوعات يتناولها أهلها، وهي جديرة بالرصد والتحليل والنقاش، لعدم انفصالها عن الموضوع أو الفتوى.