وبي أمل.. يأتي ويذهب.. لكن لن أودعه

المقابر الجماعية للفلسطينيين من جراء العدوان الإسرائيلي (الأناضول)

 

 (1) متى يتوقف عداد الموت؟

في كل يوم تنشر وزارة الصحة الفلسطينية في غزة تحديثًا بأعداد الشهداء والمصابين.

كل يوم يزداد العدد بالعشرات، عدد الشهداء اقترب من 30 ألفًا والمصابين 70 ألفًا، متى يتوقف العداد عن الصعود؟

متى يتوقف المنجل الإسرائيلي عن حصد أرواح الأبرياء الذين لا يجدون لهم مأوى يحتمون فيه من القتل الممنهج مع سبق الإصرار والترصد.

يتابع العالم القتل على الهواء مباشرة، وكأننا نعيش أجواء أفلام “ألعاب الجوع The Hunger Games” السلسلة الهوليوودية الشهيرة والناجحة جماهيريًا.

لماذا يصمت العالم حيال ما يحدث في غزة؟ لماذا يتحدث زعماء الغرب عن ضرورة إنقاذ المدنيين وإيقاف الكارثة الإنسانية في غزة دون أن ترافق كلماتهم فعلًا؟ أليس غريبًا أن ينصح هؤلاء إسرائيل بالقتل الرحيم للفلسطينيين وهم الذين يزودونها بالسلاح الذي تقتل به الفلسطينيين؟ أي نفاق وابتذال نعيشه.

كلما تابعت كلماتهم المنمقة وشاهدت أفعالهم المتناقضة أشعر بازدواجية معاييرهم المريبة، فلديهم وجهان لا وجه واحد، تمامًا مثل دكتور جيكل في الرواية التي كتبها الكاتب الأسكتلندي “روبرت لويس ستيفنسون”، بعنوان “دكتور جيكل ومستر هايد”، التي تتحدث عن دكتور جيكل، رجل العلم، صاحب المكانة الاجتماعية الذي يعيش وفق ضوابط العرف والتقاليد، والمعروف عنه الأدب والكياسة، ولكن نفسه تهفو للخروج عن هذا القالب، بشخصية أخرى تخرق القواعد كلها وتبتذل القيم وتحطم القيود كلها، شخصية تفعل المحظورات والموبقات كلها، وليس لديها كوابح “تفرمل” أفعالها المشينة، خلقها دكتور جيكل من عدم، ليصبح الطيب والقبيح في آن واحد، حتى تسيد الشرس وانتهى الحال بفنائه. حين أتابع تصريحات جو بايدن والزعماء الغربيين أتساءل كيف يتعايش أمثال هؤلاء مع أنفسهم وإلى متى يمكنهم الاستمرار في لعب دور الطيب والقبيح؟ وإلى متى سيظل شعار النظام العالمي الحالي: القوة فوق الحق وليس العكس؟

(2)  الناجون من الطوفان بالتشبث بالوطن

حين تتابع مشاهد أهل غزة وهم يوارون أحبتهم التراب في مدافن جماعية، تتعجب من قدرة هذا الشعب العظيم على الصبر والتحمل من أجل مواصلة الحياة بمن تبقي منهم، وأتذكر الأبيات الأخيرة من قصيدة “مقابلة مع ابن نوح” للشاعر المصري الراحل “أمل دنقل” التي يقول فيها:

صاحَ بي سيدُ الفُلكِ قبل حُلولِ

السَّكينهْ:

“انجِ من بلدٍ. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!”

قلتُ:

طوبى لمن طعِموا خُبزه..

في الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ

يوم المِحَن!

ولنا المجدُ نحنُ الذينَ وقَفْنا

وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا

نتحدى الدَّمارَ..

ونأوي الى جبلِ لا يموت

يسمونَه الشَّعب

نأبي الفرارَ..

ونأبي النُزوحْ!

كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ

كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ

يرقدُ الآن فوقَ بقايا المدينة

وردةً من عَطنْ

هادئاً..

بعد أن قالَ “لا” للسفينة

.. وأحب الوطن!

*

أشعر أنه لو خيّر أهل غزة بين سفينة إنقاذ تنقلهم إلى بر الأمان وبين البقاء على أرض غزة التي اختلط ترابها بدماء الشهداء سيختارون الاعتصام بغزة التي لم يعرفوا غيرها وطنَا يسكنهم. عما قريب ستتوقف الحرب، سيحدث ذلك ولو بعد حين، فالحرب منهكة للأطراف جميعها، وأثرها سلبي في المنطقة والعالم كله، والوسطاء في القاهرة يعملون على هدنة عاجلة قبل حلول شهر رمضان، لكن هذه الحرب ليست كغيرها من مناوشات وصراعات وحروب بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، هذه الحرب أيقظت العالم من سباته، وأدرك حلفاء إسرائيل قبل غيرهم أن دولة الاحتلال لا يمكن أن تنعم بالأمن والقبول في المنطقة دون حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، وإلا ستظل دوائر العنف مفتوحة وستظل المنطقة فوق بركان من الغضب الذي لا يعرف أحد متى يثور من جديد ليحرق الأخضر واليابس. ما تفعله إسرائيل الآن سبق وفعلته ألمانيا النازية فماذا كان مصيرها؟

(3) زمن الدولة الفلسطينية قادم

في شهر نوفمبر من عام 2018 أقيمت احتفالية كبيرة في باريس بمناسبة ذكرى مرور 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، حضرها عدد من قادة العالم، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانا أبطال الحدث حينذاك، فهما يمثلان أعداء الأمس شركاء اليوم، عبّر ماكرون عن ذلك، وميركل تقف بجواره، قائلًا: “أوروبا تعيش في سلام منذ 73 عامًا لأن ألمانيا وفرنسا تريدان السلام”، الشرق الأوسط يتوق إلى هذه العبارة.

وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا باقتناع إسرائيل أنها لا يمكن أن تحتل أرض غيرها وتعيش في سلام، ولا يمكن أن تهجر قسريًا الفلسطينيين من بيوتهم وتعيش في سلام، ولا يمكن أن تعامل الفلسطيني كمواطن درجة ثانية وتعيش في سلام. اقتصاد إسرائيل تأثر سلبًا في الحرب على غزة والخسائر المادية الفادحة تزيد يومًا بعد يوم، وصورة إسرائيل كواحة للأمان انهارت.

وسيبقى الأمر كذلك وربما أكثر لو لم يقتنع قادة إسرائيل بأن القوة وحدها لا تكفي للحياة في أمان واستقرار، ويجب على أمريكا والغرب أن يقوم بدوره مع إسرائيل ويفعل ما فعله مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وأن تمارس أمريكا الضغط على إسرائيل لتغيير الأفكار والمفاهيم العنصرية السائدة في المجتمع هناك وخاصة بين المستوطنين المتطرفين لتعديل سلوكهم وفق منهج يسعى لتفكيك المعتقد الديني المغلوط بأحقية اليهود في أرض الميعاد.

فلسطين يمكن أن تكون وطنًا للجميع، يعيش فيه المسلم والمسيحي واليهودي جنبًا إلى جنب في سلام، كما كان الحال قبل النكبة، يطبق فيها قانون واحد على الجميع دون تمييز أو عنصرية.

ربما يجد البعض أن هذا حلم بعيد المنال، لكنني أجده أملًا سيتحقق يومًا لا محالة.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان