استهداف الصحفيين.. المعنى والرسالة

حتى كتابة هذه السطور، استشهد خلال الأشهر الأربعة الماضية 126 صحفيًا في قطاع غزة، برصاص قوات الاحتلال، بدم بارد، وهو ما لم يسبق له مثيل في التاريخ المعاصر، ناهيك من استهداف أُسر وعائلات ومنازل معظمهم، مع ملاحظة أن ذلك الكيان لم يقدم اعتذارًا عن واقعة واحدة في هذا الشأن، في إمعان واضح وتأكيد صريح على جرائمه اليومية بحق الشعب الفلسطيني ككل، من طواقم طبية، وسيارات إسعاف، وفرق إغاثة، وأطفال، ونساء، وشيوخ، بل وصل الأمر إلى استهداف النازحين في المخيمات، والمصابين داخل المستشفيات، والموتى بنبش قبورهم!!
بالفعل، نحن أمام كيان لم يترك جريمة من جرائم الحرب إلا ارتكبها، لم يدع أيًا من الممارسات ضد الإنسانية إلا واقترفها، بالتالي لم يتوقف العالم طويلًا أمام مقتل هذا العدد الكبير من الصحفيين، على اعتبار أن عدد القتلى من الطواقم الطبية قد فاق عدد الصحفيين، كما أن عدد القتلى من فرق الإنقاذ كذلك، ناهيك من عشرات آلاف الأطفال والنساء، وهو الأمر الذي يضعنا أمام عمليات إبادة متكاملة الأركان، تعيد العالم إلى قرون سابقة، كان البعض يعدها من الماضي، الذي لن يعود، مع استحداث قوانين دولية، ومواثيق أممية، ومحاكم وعقوبات، وما شابه ذلك.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsقرار تسوية أراضي الضفة.. إذن رسمي للاستيلاء
هل تتراجع الفرنسية في المغرب؟
هل يفعلها أردوغان ويقرر الإفراج عن عبد الله أوجلان؟!
على أي حال، دلل استهداف الصحفيين بهذا الشكل المزري في الحرب على قطاع غزة، على أن هذه المهنة المتعلقة بنقل الخبر وإخبار الناس بالحقيقة، من الأهمية لدرجة تحتم على المجتمع الدولي إعادة التعامل معها وصياغة أوضاعها، بما يضمن حمايتها في المستقبل من مثل هذه الكيانات التي اعتادت القتل وسفك الدماء، وهي تعي أنها فوق المساءلة، وفوق القانون، بحكم أنها تمارس جرائمها في حماية قوى دولية، عسكريًا واقتصاديًا وفي المحافل الدولية، تتصدرها بشكل خاص كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، خاصة إذا علمنا أن الصحفيين الذين لقوا حتفهم حول العالم -أُكرر: حول العالم- أثناء أداء عملهم، خلال عام 2023 على سبيل المثال، لم يتجاوز عددهم 27 شخصًا، بخلاف 18 في غزة وحدها.
ضغوط على المنظمات
وقد بدا واضحًا أن المنظمات الدولية الخاصة بالصحفيين، تقع هي الأخرى تحت ضغوط العواصم الفاعلة، ذلك أنها اعتادت فقط إصدار بيانات الشجب والاستنكار، على غرار العواصم العربية، دون إجراءات على أرض الواقع، تمنع التعامل مع كيان الاحتلال، أو تدعو وكالات الأنباء والمؤسسات الإعلامية الكبرى إلى إغلاق مكاتبها هناك، أو تحيل الأمر إلى المحاكم الدولية، أو أي إجراء من هذا القبيل، وهي إجراءات كفيلة بردع سلطات الاحتلال، خصوصًا مع إمكانية استخدام وسائل الإعلام العالمية في الإعلان طوال الوقت عن أسماء المسؤولين المتهمين والمتورطين في هذا الشأن، ومخاطبة المطارات في أنحاء العالم لنشر صورهم في إطار التشهير بهم أيضًا.
المثير في الأمر، هو أن هؤلاء الشهداء من الإعلاميين على اختلاف طبيعة عملهم، من صحافة وتليفزيون ومواقع إخبارية ووكالات أنباء، كل جريمتهم أنهم يؤدون عملهم، وعلى مدار الساعة، دون كلل أو ملل، إيمانًا منهم بسمو مهنتهم، التي تتلخص في نقل الحقيقة إلى العالم الخارجي، ولا شيء غير ذلك، وهو ما تضيق به ذرعًا الحكومات الديكتاتورية بشكل خاص، التي لا تتورع عن اعتقال الكثير منهم، وربما التخلص من بعضهم بأشكال مختلفة، إلا أن الأمر حينما يتعلق بسلطة احتلال، على غرار الكيان الصهيوني، يصبح مختلفًا، ويصبح الرصاص سيد الموقف، خصوصًا بعد فضح ممارسات الكيان التي تجردت من كل معاني الشرف والإنسانية.
تاريخ طويل من الاغتيالات
بالفعل، حينما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني، فإننا أمام تاريخ طويل من الاغتيالات بحق الصحفيين والسياسيين والمناضلين السلميين، في الداخل الفلسطيني والخارج على حد سواء، وربما كانت جريمة اغتيال مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة برصاصة في الرأس عام 2022 أثناء تغطيتها أحداث اقتحام مخيم جنين، دليل صارخ على أننا أمام كيان لا يؤمن بأي مبادئ تتعلق بالأخلاق أو القانون أو الإنسانية، أو أي شيء من هذا القبيل، ذلك أنها لم يشفع لها كونها امرأة، أو أنها كانت تؤدي واجبها المهني، أو أنها مسيحية لا تنتمي بالتأكيد إلى حركة مقاومة إسلامية.
في هذه الأثناء يجب الوضع في الاعتبار، أن الـ126 صحفيًا الذين قتلتهم إسرائيل في قطاع غزة حتى الآن، ليسوا الخاتمة فيما يتعلق بهذا الأمر، بما يعني أن الطواقم الإعلامية كلها التي تؤدي رسالتها في القطاع الآن يضعون رقابهم على أكفهم، يتوقعون المصير نفسه في كل لحظة، يدركون حجم الخطر المحدق، ليس ذلك فقط، بل يدركون حجم الخطر الذي يهدد أسرهم، من آباء وأمهات وأبناء وإخوة وأخوات، وما نموذج وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة أيضًا، إلا دليل صارخ آخر، على وقاحة كيان الاحتلال وحقارته، الذي يكشف بشكل يومي عن مدى الخطأ الذي ترتكبه عواصم المنطقة بالتسليم بوجوده بينها، أو التطبيع معه، أو حتى مجرد الاعتراف به.
المعنى والمغزى الأكثر وضوحًا في ممارسات كيان الاحتلال بحق الصحفيين، هو أن هذا الكيان يدرك حجم الجرائم اليومية التي يرتكبها، وهو ما يجعله يسعى ويعمل على إرهاب العاملين في المجال الإعلامي بشكل عام، بعد أن يروا بأعينهم زملاءهم يتساقطون واحدًا تلو الآخر، بالتالي يتخاذلون عن نقل الحقيقة، وقد يهجرون هذه المهنة “القاتلة” لتصبح الجرائم بلا توثيق، في الوقت الذي اعتاد فيه الكيان من خلال وسائل إعلامه تزييف الحقيقة، ونقل الصورة مبتورة أو مزورة إلى العالم الخارجي.
إلا أن الغريب في الأمر، هو تلك الرسالة التي بعث بها شباب الإعلاميين الفلسطينيين إلى العالم أجمع، التي تمثلت في الإصرار على حمل الراية، من واحد تلو الآخر في اللحظة نفسها، دون خوف ودون تردد، حتى وصل الأمر أن يقوم أحدهم بتشييع ذويه، ثم يعود لاستكمال مهام عمله اليومي، بينما يمارس الآخر عمله وهو مصاب، في الوقت الذي يسعى فيه العشرات من المواطنين، ممن ليست لهم علاقة بالإعلام إلى تغطية الأحداث وبثها من خلال مواقع التواصل، أو إمداد وسائل الإعلام بها.
هي أوضاع لن نشهدها سوى في فلسطين المحتلة، وهو صمود لن نجده سوى في قطاع غزة، وهو إيمان بقضية عادلة آن لها أن تستعيد حقوقها التي سلبت منها غدرًا بتواطؤ دولي غير مسبوق، حين ذلك سوف تتكشف أسرار وخفايا تركيز سلطات الاحتلال بشكل خاص، على استهداف الصحافة والصحفيين، والأطباء والمسعفين، وجميعها جرائم لا تسقط بالتقادم.
رحم الله الشهداء الصحفيين وغيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق، وألهم أهليهم الصبر، وحسبنا الله ونعم الوكيل.