دماء الصحفيين تكتب الحقيقة

مراسل الجزيرة إسماعيل أبو عمر

 

بمقدار ما بدا العدوان الذي يشنه الكيان المحتل على أهالي قطاع غزة غير مسبوق في إجرامه، دفع الصحفيون جزءًا كبيرًا من ثمن حرب الإبادة، فأضحت الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضدهم هي الأضخم والأكثر دموية في التاريخ الحديث بأكمله.

فما بين بداية عملية “طوفان الأقصى” وحتى اليوم تصدر الهيئات والمؤسسات المعنية بالصحافة تقارير مخيفة وكاشفة لما يحدث في غزة من محرقة يتم ارتكابها تحت أنظار العالم، حتى أن بعض التقارير الدولية تشير إلى أن الأعداد التي سقطت من الصحفيين خلال الحرب العالمية الثانية تصل إلى أقل من نصف عدد من استشهدوا خلال حرب الإجرام الصهيوني على الشعب الفلسطيني طوال الأشهر الخمسة الفائتة، حتى بدا الأمر وكأن دماء الصحفيين هي من تكتب الحقيقة التي يحاول الاحتلال قتلها، فيزيد عدد الشهداء من بهائها وتألقها.

أعداد مروعة:

في تقارير نقابة الصحفيين الفلسطينيين وعدد من المنظمات الدولية المدافعة عن حرية الصحافة بدت أعداد الشهداء والجرحى والسجناء في صفوف الصحفيين مروعة، وهي ليست كاشفة فقط لرغبة صهيونية محمومة في التغطية على ما تم ارتكابه من جرائم فادحة بحق الشعب الفلسطيني، بل هي مؤشر واضح أيضًا على طبيعة العدوان الإجرامي وعنفه وقسوته وانفلاته من القيود القانونية والأخلاقية كلها، حتى ظهرت إسرائيل وكأنها فوق القوانين والشرائع والأخلاق وكل القيم القانونية والسياسية.

فبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة سقط أكثر من 120 شهيدًا من الصحفيين حتى بداية الأسبوع الأول من شهر فبراير/شباط الحالي، فيما وثقت لجنة حماية الصحفيين -وهي منظمة مستقلة مقرها الولايات المتحدة الأمريكية وتعمل على تعزيز حرية الصحافة في العالم- اعتقال نحو 17 صحفيًا فلسطينيًا ما زالت تحتجزهم قوات الاحتلال حتى هذه اللحظة، وقد دفع الإجرام الصهيوني بحق العاملين في وسائل الإعلام اللجنة إلى إصدار تقرير خلال هذا الشهر يطالب بإجراء تحقيقات “سريعة وشفافة ومستقلة” بشأن الصحفيين جميعهم الذين “قتلوا” على يد إسرائيل.

الأرقام تبدو مفزعة وكاشفة والمشهد يبدو قاتمًا أكثر عند الوقوف أمام الأرقام التفصيلية التي أعلنتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين حول أوضاع الصحفيين خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العدوان، فحسب بكر عبد الحق عضو مجلس إدارة النقابة الفلسطينية في تصريحات إعلامية فإن عدد الشهداء من أبناء الوسط الصحفي الفلسطيني خلال أقل من 100 يوم كان يوازي ضعف الرقم الذي سقط في الفترة منذ عام 2000 حتى عام 2020، أي أن 90 يومًا فقط مثلوا أكثر من ضعف الأرقام التي نالت الشهادة طوال 20 عامًا، هذه الأرقام تشمل أيضًا أكثر من 60 جريحًا من الصحفيين بعضهم ما زال يتلقى العلاج حتى الآن، فضلًا عن أن عددًا منهم يعاني من إصابات خطرة وتستلزم العلاج خارج غزة، أو نتج عنها عاهات وإصابات دائمة.

نقابة الصحفيين الفلسطينيين أضافت أيضًا على لسان مسؤوليها أن هناك أكثر من 300 صحفي فقدوا منازلهم وأسرهم بسبب القصف الإجرامي لجيش الاحتلال، فيما تم تدمير 64 مؤسسة إعلامية بشكل كلي أو جزئي.

حصانة دولية:

تبدو المفارقة أوضح وأكثر قسوة إذا عرفنا أن الصحفيين محصنون أثناء أدائهم لعملهم، بحسب القانون الدولي وقرار مجلس الأمن رقم 1738، فقد جاء في نص القرار الدولي الذي صدر عام 2006 ما يدين الهجمات العسكرية ضد الصحفيين ووسائل الإعلام، وساوى القرار بين مركز الصحفيين والإعلاميين وبين المدنيين الذين يجب حمايتهم وقت أي صراع مسلح، وشمل أيضًا الأطقم المساعدة في عمل الإعلاميين والمعدات والمنشآت الصحفية وحصنهم جميعًا ضد الأعمال العسكرية والانتقامية كلها، وكأن القرار الدولي يصف بالضبط ما حدث طوال خمسة أشهر من العدوان الإسرائيلي ضد الصحافة والإعلام، ليذكرنا بأن الهجمة على الإعلام هي جريمة دولية جديدة قام بها جيش الاحتلال بلا مبالاة متناهية لم يعدمها أبدًا منذ بدأ عدوانه في أكتوبر الماضي.

بهذا المعنى فإن العدوان الهمجي المستمر ضد الصحفيين منذ عملية “طوفان الأقصى” الشجاعة وحتى الآن هو جزء من انفلات المحتل ودهسه على القوانين كلها بالدبابات، وهو أمر لا يجب أن يمر مرور الكرام، فعلى المنظمات الدولية ونقابات الصحافة العربية الاستمرار في ملاحقة مجرمي الحرب أمام المحاكم الدولية وفضح جرائمهم أمام العالم، ومواصلة السير على هذا الدرب مهما كانت تكلفته السياسية، فالمعركة القانونية مهما كانت نتائجها هي جزء من المعركة الشاملة ضد احتلال نازي يدوس على الأعراف والشرائع جميعها دون أن يلتفت مرة واحدة للوراء.

ملاحقات دولية لمجرمي الحرب:

في تصريحات مسؤولي نقابة الصحفيين الفلسطينيين ما يشير إلى أن النقابة تبذل جهدًا كبيرًا في توثيق جرائم المحتل ضد الصحافة والعاملين فيها، ويؤكد أنها بدأت اتخاذ الإجراءات لملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهي خطوة مهمة ومطلوبة، على أن الأمر لا يجب أن يتوقف على النقابة الفلسطينية بمفردها، فالحوار والتنسيق العاجل مع الهيئات والمنظمات الدولية المستقلة والمدافعة عن حرية الصحافة، فضلًا عن النقابات العربية، وفي القلب منها نقابة الصحفيين المصريين، واتحاد الصحفيين العرب ما يقوي الموقف ويدعم الحق الفلسطيني، ويحوّل القضية من شأن فلسطيني إلى مساحات دولية أرحب، ويمنح القضية زخمًا عالميًا أوسع، ويعود بالفائدة لا على قضية الصحفيين فقط بل على القضية الفلسطينية ذاتها.

في ظل موازين عالمية ظالمة تفتقد للتوازن قد لا تصدر أحكام نتمناها ضد مجرمي الحرب الصهاينة، وقد يفلت مرتكبوها مؤقتًا من الحساب، لكن هذه القضايا مطلوبة ومهمة لا للحاضر فقط بل للمستقبل، فضلًا عن أنها توثيق تاريخي مهم يتركه الجيل الحالي للأجيال المقبلة، فالحقوق لا تضيع ما دام هناك من يحميها ويدافع عنها جيلًا بعد جيل، وفي تراكم الجرائم الصهيونية ما يقرب الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في الحرية وفي استرداد أرضه، وبتكاتف وتكامل المعارك كلها، عسكرية وسياسية وقانونية، ما يجعل الانتصار على أحط احتلال عرفه التاريخ واقعًا وحقيقة.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان