أمريكا وطوفان الأقصى وماذا بعد؟
لم يكن موقف الإدارة الأمريكية من معركة طوفان الأقصى، التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والردود الإسرائيلية اتجاه المعركة، مفاجئًا لكثير من المتابعين للسياسة الأمريكية في المنطقة وما تقوم عليه من أبعاد وتوجهات حاكمة، يمكن من خلالها توقع ممارساتها وأدواتها.
لقد كانت الولايات المتحدة من أهم محطات إدارة المواجهة مع حركات المقاومة الفلسطينية، أمنيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا ودبلوماسيًّا، وتعددت الممارسات التي قامت بها، ووصلت إلى درجة تشكيل تحالفات سياسية وعسكرية لتعزيز القدرات الإسرائيلية في هذه الحرب، على كافة المستويات.
وحتى يمكن الوقوف على أسباب هذا الدعم الأمريكي اللامحدود للكيان الصهيوني، يجب معرفة أبعاد العلاقة بين الطرفين، إذا كان تعبير طرفين دقيقًا!!
بين التاريخ والفكر والأيديولوجية
البعد الأول من أبعاد هذه العلاقة يتمثل في المكون التاريخي، حيث كانت الولايات المتحدة من أول الدول الداعمة لفكرة الدولة الإسرائيلية حتى قبل صدور بيان بلفور عام 1917، وإذا كانت بريطانيا هي التي تبنت مهمة التأسيس والترسيخ للجماعات والعصابات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية بين 1895 و1947 فإن الولايات المتحدة أصبحت الراعي الأول للكيان مع إعلان دولته عام 1948، وأصبحت الحامي والمدافع عن كل سياساته باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن.
وهنا يبرز البعد الثاني، ممثلًا في التيارات الصهيونية المسيحية التي تنامت داخل المجتمع الأمريكي وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل وفي مقدمتها الإيباك، التي أصبحت حواضن فكرية وثقافية وأيديولوجية لدعم السياسات والممارسات الإسرائيلية، بل والتأثير في توجهات السياسات الأمريكية نحو إسرائيل، بل ونحو مختلف الأطراف في المنطقة العربية.
بين السياسي والاقتصادي وصراع المصالح الكبرى
البعد الثالث من أبعاد هذه العلاقة يتمثل في الاعتبارات السياسية، سواء تلك التي تتحكم من خلالها القوى الصهيونية واليمينية في الإدارات الأمريكية، وتسيطر على العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في النظام الأمريكي، أو تلك التي ترتبط بحدود الدور الأمريكي في العالم والصراع الدولي على العالم العربي.
يرتبط بذلك البعد الرابع، الاقتصادي، وسعي الولايات المتحدة للهيمنة على مقدرات دول المنطقة من النفط والغاز والثروات المعدنية والموارد الطبيعية والأسواق التجارية، واستخدام إسرائيل كرأس حربة متقدم في تحقيق هذه الأهداف.
جدل الأمني والعسكري والاستراتيجي
البعد الخامس من أبعاد هذه العلاقة، يتمثل في الاعتبارات الأمنية والدور الذي تقوم به إسرائيل استخباريًّا وأمنيًّا في المنطقة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، واختراقها للعديد من النظم والحركات والمكونات السياسية والاجتماعية في دول المنطقة.
وعسكريًّا، كان وجود إسرائيل أحد أهم أسباب ازدهار تجارة السلاح في المنطقة، وكان للشركات الأمريكية الحضور الأكبر والأكثر تأثيرا، ومع حرص الإدارات الأمريكية على ضمان التفوق الإسرائيلي أمنيًّا وعسكريًّا، كان ذلك دافعًا لها لتعدد عملياتها العسكرية على عدد من دول الجوار الفلسطيني، في سوريا ولبنان وكذلك ضد حركات المقاومة الفلسطينية، التي لم تتوقف حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993.
بل إن الولايات المتحدة لم تتوقف في دعمها العسكري لإسرائيل عند حدود التسليح والتطوير اللامحدود، بل شكلت تحالفات عسكرية لتوفير مزيد من الدعم والإسناد اللوجيستي والعسكري، مثل تحالف ما أسمته “حماية الازدهار” في البحر الأحمر، واستصدرت قرارًا رسميًّا من مجلس الأمن الدولي تحت رقم 2722، في العاشر من يناير/كانون الثاني 2024، بأغلبية 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصويت هي روسيا والصين والجزائر وموزمبيق. وهو قرار من بين أهدافه البعيدة المدى تدويل مضيق باب المندب وجعل حماية المرور فيه مسؤولية دولية وليس مسؤولية الدول التي تطل على شاطئيه شرقًا وغربًا.
هذا رغم وجود قواعد عسكرية أمريكية في عدد من الدول المطلة على المضيق وعلى البحر الأحمر مثل جيبوتي وإرتريا وإثيوبيا والصومال.
ماذا بعد.. وماذا بعد.. وماذا بعد؟
منذ اليوم الأول لما بعد طوفان الأقصى والتدخل الأمريكي الواضح والحاسم لصالح الكيان الصهيوني، طرحت الإدارة الأمريكية ومعها الإدارة الإسرائيلية سؤالا عن “ما بعد حماس”، ومع استمرار صمود حركات المقاومة ومرور نحو أربعة أشهر على بدايات المواجهات العسكرية (حتى تاريخ كتابة هذا المقال) برز سؤال عن “ما بعد إسرائيل”، بل ظهرت كتابات تتحدث عن “ما بعد أمريكا”.
هذه التساؤلات حول “المابعديات” ليست وليدة هذه الموجة من الصراع العربي الإسرائيلي، بل مطروحة منذ سنوات، لكنها ترسخت وتعمقت وزاد الجدل حولها مع التداعيات الأمنية والعسكرية والسياسية لمعركة طوفان الأقصى، ونجاح حركات المقاومة الفلسطينية في فرض سرديتها وروايتها للأحداث في مقابل الروايات الإسرائيلية والأمريكية، بل ونجاحها في التأثير في توجهات الرأي العام في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية، بدليل خروج المظاهرات المليونية في عدد من العواصم والمدن الرئيسية في هذه الدول.
وأمام عدم قدرة الكيان الصهيوني على تحقيق الأهداف الأمنية والعسكرية التي أعلن عنها بعد طوفان الأقصى، رغم الدعم الأمريكي اللامحدود، كان سؤال “ما بعد إسرائيل” أكثر بروزًا حتى داخل الأوساط الإسرائيلية والأمريكية، وتعزز مع نزوح بل وخروج مئات الآلاف من المستوطنين الصهاينة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعودة الكثيرين منهم إلى دولهم، ولو مرحليًّا، في ظل اهتزاز أسطورة “دولة الأمن الإسرائيلية”.
حدود الدعم ومدى الاستمرار
ومع تعدد أبعاد العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ومع الإشكاليات والجدالات التي أثارتها معركة طوفان الأقصى، أصبح من بين التساؤلات المستقبلية الشديدة الأهمية: ما مدى استمرارية هذا الدعم الأمريكي لإسرائيل، الذي يتعارض بدرجة كبيرة مع مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة العربية؟
والإجابة هنا تكمن في: إلى أيّ مدى ستشكل إسرائيل عبئًا على هذه المصالح؟ وخاصة مع تنامي وصعود الدور الي تقوم به الحركات والفصائل والجماعات والمليشيا المسلحة في عدد من الدول العربية، وقدرتها على تهديد هذه المصالح، تحت مظلة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني المقاوم.
ومع تعدد العمليات التي تقوم بها هذه الجماعات واستهدافها للمصالح الأمريكية في المنطقة، سيكون على الولايات المتحدة الموازنة بين حجم الدعم الذي توفره للكيان الصهيوني وحجم الأضرار التي تتعرض لها مصالحها؛ لأن استمرارها في دعم الممارسات الصهيونية، يمكن أن يفتح الباب أمام اتساع نطاق المواجهات العسكرية في المنطقة ودخول قوى إقليمية ودولية على خطوط الصراع، والانتقال من حرب الأدوات والجماعات المسلحة إلى حرب الجيوش النظامية.