الحمار الأمريكي و”جزرته المعطوبة”

ذات مرة تساءل الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش: لماذا يكرهوننا؟! يقصد العرب والمسلمين….
السؤال لم يكن للاستفهام بقدر ما كان للاستنكار والتعجب، وهو أمر لا ينم عن جهل واستعلاء بل يكشف مدى الحمق والغباء، فالوقائع تفوق الحصر ورصدها يؤكد أن الحماقة مرض عضال تعاني منه الإدارات المتعاقبة لا فرق في ذلك بين “الحمار” الديمقراطي أو “الفيل” الجمهوري، وربما كان حظ بايدن العاثر أنه قد آن أوان الحساب على هذا الإرث البغيض.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالتفوق الجوي الباكستاني في المعركة مع الهند يعني الكثير
مصطفى محمد.. الذي قال: لا للمثلية
ثمن السلام.. درس السادات لم يتعلمه أبو مازن
وفي عام الانتخابات يطارد شبح ترمب الرئيس بايدن فيحاول مجاراته في دعم الكيان اللقيط، ورغم أنه لم يقصر في استرضاء نتنياهو وعصابته لكن دون جدوى، وبعد كل ما فعله لم يتردد بن غفير في التعبير عن حنينه لعودة الفيل، وقال في تصريح لـ وول استريت جورنال: “لو كان ترمب الرئيس الحالي للولايات المتحدة لكان السلوك الأمريكي مختلفا تماما”، فهل توقف الحمار عما يفعل؟!، بالقطع لن يتوقف بل سيظل دون أن يستفيق قبل مغادرته البيت الأبيض غير مأسوف على سوء قراءته لمجريات الأحداث على كل المستويات.
حتى الأول من نوفمبر الجاري هناك 48 مدينة -بينها 14 مدينة ما زالت متأرجحة ويعول عليها بايدن لإعادة انتخابه- أعلنت مطالبتها لإدارته بالضغط من أجل إيقاف الحرب، فجاءها الرد عن طريق مستشار الأمن القومي جيك سوليفان (لإنهاء الحرب نحتاج إلى عودة جميع الرهائن وضمان عدم قدرة حماس على تشكيل تهديد لإسرائيل)، وهكذا لا ترى إدارة بايدن إلا بعيون الاحتلال ولا تعمل إلا لتحقيق رغباته، وأصبح الرئيس عاجزا فلا هو واكب مزاج الشارع الأمريكي” المستجد” ولا هو نال بركة اللوبي الصهيوني.
أزمة الأونروا أعمق من التمويل
وحينما يقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان – من بين عشرات التقارير التي ترصد الأوضاع المأساوية- إن 110 آلاف فلسطيني داخل غزة باتوا في عِداد القتلى والمفقودين والجرحى، وإن الاحتلال استهدف نحو 67% من مساحة القطاع، فإن قائد العالم الحر يتجاهل كل ذلك وكأنه لم يصل إلى مسامعه حجم إجرام العصابات الصهيونية من قتل للأبرياء الذين احتموا في مراكز الإيواء أو إعدامهم للأسري مكبلين ودفنهم للعشرات أحياء في مقابر جماعية، لكنه انتفض بمجرد ادعاء الصهاينة على الأونروا بأن 12 من موظفيها شاركوا في أعمال المقاومة ، ليعلن (و16 دولة تتبعه) الحرب على الوكالة ووقف تمويل برامجها المخصصة لرعاية اللاجئين الفلسطينيين وفق قرار تأسيسها منذ النكبة منتصف القرن الماضي دون أن يتثبت من صحة الاتهامات، في موقف لا أخلاقي جديد للرئيس الأمريكي الذي لم يتعلم الدرس بعد سقطته “الفاضحة” بترديد ادعاء كاذب بشأن قتل المقاومة 40 طفلا وفصل رؤوسهم وهو ما اضطر إدارته لنفيه فيما بعد.
ما يثير الريبة أنه حتى لو افترضنا صحة الاتهامات (وهي بالقطع كاذبة) تبقى الهجمة وردة الفعل الأمريكي على الأونروا غير مبررة وغير منطقية، وتبدو القصة أعمق من مسألة التمويل مع الإقرار أن الوكالة تمثل “العمود الفقري” للجهود الإنسانية في غزة، على حد وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لكن يبقى دورها الأهم في توثيق وحصر أعداد اللاجئين وحفظ حقهم في العودة وفق القرارات الدولية التي يظن الاحتلال أنه أمام فرصة سانحة لقطع الطريق أمام حق العودة لأكثر من 5 ملايين فلسطيني في الخارج.
ولا يمكن فهم أبعاد الحملة الشعواء ضد الأونروا إلا في سياق الأحداث التي تفضح طبيعة المخطط الصهيوني وسعيه لابتلاع كامل الأرض الفلسطينية وتحقيق الأهداف الدنيئة بضربة واحدة، فالهجوم على الوكالة تزامن مع مؤتمر عقده المحتل في القدس نهاية يناير الماضي بعنوان “عائدون إلى غزة”، وبحسب صحيفة “هآرتس “الإسرائيلية “هدف المؤتمر ليس قاصرا على عودة المستوطنين إلى غلاف غزة بل تجديد الدعوة لإجبار الفلسطينيين على التهجير، وخلاصة المؤتمر تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن حمى التهجير باتت تسيطر على الاحتلال بشكل هستيري، الأمر لا يخص الجماعات المتطرفة التي يمثلها بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، بل الجميع بلا استثناء يعتبر ترحيل أهل غزة الضمانة الوحيدة لبقاء دولتهم المصطنعة.
وبحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” فالموقف يشمل الضفة أيضا حيث تسعى جهات استيطانية لاستصدار تراخيص بناء لآلاف الوحدات هناك.
وهكذا، تتعدد السيناريوهات ويتبارى العقل الصهيوني لإبداع فكرة الخلاص من أهل الأرض الأصليين، ولعل وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك حينما قالت (إن شعب غزة لا يمكن أن يختفي ويتبخر في الهواء) كشفت جوهر الأزمة التي يعيشها الاحتلال، فما قالته هو صيغة مطابقة للفكرة التي أعلنها من قبل بعض المتطرفين في حكومة نتنياهو عن استخدام القنبلة النووية لتفريغ غزة من أهلها، والواقع أن عملية الطوفان أحدثت شرخا يصعب ترميمه فيما يخص المشروع الاستيطاني، ويبذل نتنياهو وأفراد عصابته جهودا جبارة ويقدمون سلسلة من الإغراءات لاستمالة مجموعات يمكنها أن تقبل بفكرة العودة في الغلاف المحيط بالقطاع، لكن الواقع يؤكد صعوبة -إن لم يكن استحالة – تنفيذ الفكرة عمليا خاصة وأن المقاومة ما زالت قادرة على بلوغ أهدافها والوصول إلى أي مكان في تكذيب واضح لما يدعيه جيش الاحتلال من تحقيق نتائج لصالحه في ميدان القتال.
جحا الأمريكي فاقد البوصلة
لا يوجد بيننا من لا يعرف جحا ونوادره ومنها أنه حينما فقد خاتمه في شارع توجه للبحث عنه في مكان آخر ولما سُئِلَ فسر فعله الأحمق قائلا: “كيف تريدون مني البحث في مكان مظلم وأترك موقعي حيث الإضاءة الساطعة!!!”، ومثله تماما فعل بايدن الذي يعلم أن جوهر الصراع وعقدة الحل يدور حول القضية الفلسطينية لكنه راح يضرب العراق وسوريا ومن قبلهما اليمن مما ينذر بتوسع دائرة الحرب على عكس ما يعلنه ويحذرنا منه، ورغم إدراكه أن العدوان الهمجي الصهيوني المتواصل وأطماع العدو اللامحدودة هو أصل وسر البلاء وراء التوتر ويهدد بضرب مصالح أمريكا في المنطقة، لكنه يتعامى عن هذه الحقيقة، وبدلا من التعامل الذكي والسعي الجاد نحو معالجة المشكلة من جذورها في موضعها الصحيح وبالأسلوب الأمثل لإنهائها يصر على ارتكاب أفعال غبية يعرف مقدما أنها سوف تؤدي إلى تفاقم المشكلة.
المدهش أنه حتى عندما أراد امتصاص حالة الغضب والاحتقان العربي بإطلاق بالونه الفارغ عن حل الدولتين، وقال إن نتنياهو مؤيدا لها كَذّبه الأخير علانية، لينزع عنه ما يستر عورته وليجهض مبكرا خطته في الخداع باستخدام “جزرته الفاسدة” التي لطالما روجت لها الإدارات الأمريكية طوال أكثر من نصف قرن ، ومن ثم بات قدوم وزير خارجيته صهيوني الهوى والهوية أنتوني بلينكن إلى عواصمنا بلا فائدة ترجى، ولا خير فينا إن نحن صدقناه واشترينا ما يريد بيعه من أوهام، أما إذا حاول بعض الحواريين من زعماء وقادة المنطقة إقناعنا بأن أمريكا هذه المرة جادة في سعيها ومضيها قدما على طريق حل الدولتين، وواصل الإعلام المتصهين زف البشرى وضرب الدفوف فأبشر بطول سلامة يا مربع.