حتى تُنتج “الحكمة” آثارها

منذ يومين وحتى الآن لم ينقطع الجدل في مصر عن صفقة “رأس الحكمة” مع دولة الإمارات العربية المتحدة وأثرها الاقتصادي، وقدرتها على انتشال البلد من وضع اقتصادي صعب ومأزوم، ومشهد اقتصادي تمتزج فيه مشكلات غلاء الأسعار مع ندرة العملة الأجنبية وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية بشكل غير مسبوق، هذا المشهد الذي يكتمل ويصبح أصعب باختفاء عدد من السلع الرئيسية والمهمة -أو صعود أسعارها بشكل كبير- وزيادة الديون الخارجية والداخلية بنسب كبيرة وخطيرة للغاية تعدت الحدود الآمنة للدين العام، وضغطت بشدة على الموازنة العامة للدولة.
جدل اقتصادي وغياب للسياسة
وحسب ما أعلنه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الجمعة للإعلان عن تفاصيل الصفقة الاستثمارية، فإن مشروع رأس الحكمة هو شراكة بين مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، وما أكده رئيس الوزراء المصري أيضًا هو أن المشروع سيتضمن أحياءً سكنية لكل المستويات، وفنادق عالمية ومنتجعات سياحية، ومشروعات ترفيهية، إضافة إلى جميع الخدمات العمرانية، مثل المدارس والجامعات والمستشفيات، وكذا منطقة حرة تحتوي على صناعات تكنولوجية، فضلًا عن إنشاء حي للمال والأعمال من أجل استقطاب الشركات العالمية لتكون موجودة في هذه المدينة الجديدة.
وحسب مدبولي، فإن هناك 35 مليار دولار ستُضخ في شرايين الاقتصاد المصري خلال شهرين، منها 24 مليار سائلة على دفعتين، إضافة إلى تنازل الإمارات عن 11 مليار أخرى كانت ودائع لها في البنك المركزي المصري.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالوجه الثوري للحاج مالك الشباز الشهير بـ”مالكوم إكس”
حين يصبح الترفيه دعوة.. والدعوة ترفيها
الشريعة وميراث حفيدات الدجوي
في الجدل المصري الساخن والمستمر حول الصفقة وطبيعتها، غاب الحديث عن السياسة بشكل كامل، وكأن الأزمات الاقتصادية الكبرى لا تبدأ وتنتهي عند السياسة، ففي الحديث عن الاقتصاد وأزماته المعقدة والحلول المتاحة لا يمكن البدء إلا من السياسة، فلا اقتصاد ناجحًا دون رؤى وتصورات واضحة، ومناخ سياسي صحي، تتكامل فيه عوامل الإدارة بكفاءة مع الشفافية والرقابة والتخطيط السليم، ومن هنا فإن النقاش الأهم حول الصفقة التي قدمتها الحكومة المصرية باعتبارها الأضخم في التاريخ لا بد أن يبدأ من الشفافية والحريات والرقابة والإعلام وغيرها من قضايا سياسية، حتى نضمن أن القادم سيكون مختلفًا عن سنوات مضت.
قضايا مهمة لنجاح رأس الحكمة
في دول العالم التي يمكن اتخاذها نموذجًا للنجاح والتقدم، لا اقتصاد حر وسياسة محاصرة، هذه حقيقة لا مجال للتشكيك فيها أو الانتقاص من مضمونها، والاقتصاد الحر والناجح يلزمه مجتمع حر وحيوي ومجال عام لا يتوقف عن الجدل والنقاش.
وفي الرهان على الاستثمار الأجنبي المباشر لإنعاش الاقتصاد المرهق وإعادته إلى مساره الطبيعي مع الإصرار على خنق الأفكار والقدرة على التعبير بحرية خسارةٌ مؤكدة.
وفي غياب مراجعات جادة للمرحلة الماضية بالكامل، تشمل ترتيب الأولويات والتعامل مع الأزمة الاقتصادية باعتبارها جزءًا من أزمة سياسية في الأساس هروبٌ من المواجهة الحقيقية، وإهدار لفرص يمكن أن تنتشل مصر من وضعها الحالي إلى آفاق أفضل.
ظني أن رأس الحكمة -وكل حكمة- حتى تكتمل وتصبح فرصة حقيقية للسير خطوات للأمام تحتاج إلى أن نفهم هذا الترابط بين السياسة والاقتصاد، وأن نتعامل مع أي دعوات للإصلاح إجمالًا وليس بسياسة القطعة عبر إدراكنا لثلاث قضايا مهمة:
أولًا: الإيمان القاطع بأنه لا تقدُّم اقتصاديًّا جادًّا بينما تبدو السياسة في إجازة مفتوحة، فلا برلمان يحاسب ويسائل، ولا أحزاب وقوى سياسية تقدّم خططًا ومشروعات وبدائل للسياسات السائدة، وكلما استمر الحصار غير المسبوق للمجال العام، وغاب معه النقد والمساءلة والمكاشفة، وتدنت قيمة الحوار العام حول أولويات الإنفاق، فلا أمل في رأس الحكمة أو في أي رغبة جادة وحقيقية في تغيير الطريق الذي أدى إلى تفاقم أزمة الاقتصاد بهذا الشكل المخيف.
ثانيًا: أي رغبة في التقدم والسير باتجاه مستقبل مختلف لا يقابله مساحة أوسع للحريات الصحفية والإعلامية لا يُعوَّل عليها، فتحرير الإعلام من القيود، ومنحه حريته في كشف كل صور الفساد والانحراف -وهذا هو صميم عمله- هو جزء من رسم خطة طريق جديدة تقلل من التكلفة الاقتصادية المرهقة للفساد، وتمنح المستثمر الثقة المطلوبة في المناخ العام، وفي شفافية السياسات، وتُحوّل وسائل الإعلام إلى منابر للنقاش الذي لا ينبغي أن ينقطع حول النجاح والفشل، وحول الاجتهاد والإخفاق، وبدون أن يتحول الإعلام إلى صوت حر وجاد للمواطن، وأن يمسي عينه التي يراقب بها أداء المسؤولين، سنظل نراوح المكان نفسه دون أن نتحرك منه إلى مساحات أرحب وأكثر تقدمًا أو اتصالًا بالمستقبل.
ثالثًا: في حركة رأس المال في العالم هناك سؤال سابق لأي استثمار حول سلطتين رئيسيتين في أي مجتمع هما: البرلمان والقضاء.
في استقلال البرلمان وقدرته على مساءلة جادة وحقيقية للحكومة، ما يطمئن المستثمر ويهيئ له من الأسباب ما يقنعه بأن أمواله تعمل في دولة قانون، ويمنحه الثقة في عدم التعرض لأزمات مع حكومة يراها تخضع لسلطة البرلمان أولًا ثم ثانيًا، ما دامت الضمانة الثانية متاحة وهي الشعور بأن هناك استقلالية كاملة للقضاء.
في كل الدول التي سبقتنا على طريق النهوض، كان استقلال السلطة القضائية بشكل كامل جزءًا مهمًّا في تشجيع الاستثمار وجذبه، فحق التقاضي دون خوف هو جزء من الضمانات التي يطلبها رأس المال قبل أن يتجه إلى الدول أو الأسواق.
في عالمنا الحالي لا يمكن بناء النجاح على أجزاء، وكلما فقد طريق المستقبل أحد شروطه الرئيسية دفع المجتمع ثمنًا أكبر ووقتًا أطول في الوصول إلى محطة التقدم. وعليه، فإن رأس الحكمة التي فجّرت الجدل العام يمكن أن تكون فرصة جيدة -كما ترى الحكومة- إذا ترافقت معها خطوات لتصحيح أوضاع السياسة والحريات والمساءلة والشفافية، وفي تقديري أن هذا هو المعيار الحقيقي الذي يمكّننا من الحكم سواء على رأس الحكمة أو على غيرها من مشروعات تعد الحكومة الشعب المصري بها كل يوم.