غزة تحطم أساطير النظام العالمي

جانب من جلسات محكمة العدل الدولية (غيتي)

 

لا تزال المجازر قائمة على أرض غزة من شمالها إلى الجنوب في رفح الفلسطينية المعزولة عن شقيقتها في مصر العربية الإسلامية بسور عازل وجدار بُني حديثا ليزيد الشقاق والفرقة بين العائلات الواحدة والأشقاء في كلا البلدين.

ولا يزال العالم كله يتابع فصول المأساة الإنسانية، ولا يحرك ساكنا لإيقاف المجازر التي يذهب ضحيتها أبناء فلسطين أطفالا ونساء، شيوخا وشبابا، لم تقف المجازر عند حدود غزة وبناياتها، ومزارعها وطرقها، بل امتدت إلى كل الأرض العربية المحتلة في فلسطين، فلم يسلم من الاجتياح الضفة الغربية أو القدس أو أي شبر أرض يحتله الكيان الصهيوني.

تحدث الإبادة البشرية والعمرانية في غزة بينما العالم مشغول بعرضه المسرحي تحت قبة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، عرض لا ينقص منه شيء تحت شعار الديمقراطية للجميع، ديمقراطية الحوار والندب والصراخ، التي تحتوي على الإدانة والشجب والتنديد، لا مانع لدى النظام العالمي الجديد أن يسمح بمثل هذه العروض ما دامت في إطار الديمقراطية اليونانية القديمة، والأمريكية الحديثة.

ديمقراطية مزيفة

للجميع الحق في الكلام والحديث، لكن الفعل لمن يملك سلطة القرار والقوة الغاشمة، وفي اليوم الثامن والثلاثين، والتاسع والثلاثين بعد المئة في حرب الإبادة المستمرة والمعروضة على أرض الواقع وعلى شاشات المحطات الإخبارية لا مانع من عروض موازية لجلسات محكمة العدل الدولية لإدانة الدولة التي تحتل أرضا لدولة أخرى، وتقتل أبناءها وتبيد الحياة فيها، وفي غياب المجرم الذي سرق وطنهم ويحرق فيه، ومع استمرار الجريمة لا مانع أن يمارس النظام العالمي الجديد ديمقراطيته بمثل هذه الجلسات التي لا تسمن ولا تغني.

صمود غزة وأبنائها من المقاومين والشعب في فلسطين أسقط زيف الديمقراطية التي يتشدق بها النظام العالمي الجديد، وكأن هذا الجيل من أبناء الشعب الفلسطيني ومقاومته موج يزيل القصر الرملي الذي بناه المجتمع الدولي على مدار قرن، فلا الأمم المتحدة بجلساتها ودولها الـ192 وجلسات نقاشها لقرارات وقف إطلاق النار، ولا مجلس الأمن بقراراته التي يقف في وجهها الفيتو الأمريكي أو البريطاني والفرنسي يمكن أن تقف في وجه القوة الغاشمة التي يمتلكها الكيان الصهيوني، في وجود القوة لا مجال للثرثرة والكلام، فلا يردع قوة إلا قوة مثيلة، وما دامت إسرائيل بمساندة الأب الشرعي الأمريكي وداعميها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا تمتلك القوة، فلا أثر لمن يتكلمون في تلك المجالس والمحاكم.

كلام بلا جدوى

أدخلنا النظام العالمي في دوائره الكثيرة وقصوره الهيكلية التي سرعان ما تكتشف هشاشتها أمام أول اختبار حقيقي يمس مصالحه، فقد دعانا في أبجدياته إلى التظاهر والاحتجاج عبر وسائل تعبير مناسبة، فسارت المظاهرات في كل ميادين العالم تندد ببشاعة ما يحدث في فلسطين، تحولت الميادين حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا اللذين يرعيان الكيان الصهيوني إلى ميادين تعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني.

ظهرت أصوات داخل مجلس العموم البريطاني والكونغرس الأمريكي تندد وتشجب، فما كان من القائمين على أمنهما إلا طرد المحتجين خارجهما، وإبعاد بعض المحتجين عن الحضور، فلا مجال للتظاهر ما دام الفاعل إسرائيل، وما دام المفعول به هو أي شعب من شعوب العالم الجنوبي، العربي والإسلامي، تلك المظاهرات والاحتجاجات فقط لهم حينما يريدون تسييرها من أجل تحطيم بلد لا تأتي سياساته على هوى المتحكمين في العالم وثرواته ومصالحه، فلا صوت يعلو فوق مصالح الأمريكيين والصهاينة.

تمتعنا معهم بصحافة على مقاسهم فقط، لا تتسع تلك الصحف والقنوات إلا لما يناسب قماشتهم المزيفة، فإن حاولنا عمل النسيج الخاص بنا نحن أبناء الجنوب من كل بلدان العالم حاصرونا ومنعوا كلماتنا وكتاباتنا من الوصول إلى المستهدف، سواء من أبناء جلدتنا أو من أبنائهم الذين نرى فيهم أملا إنسانيا في التعاطف، وإذا سمحوا لنا بالتعبير فهو فقط من أجل أن نتنفس.

تنفسوا وسودوا صحفكم، وبثوا آلامكم عبر الشاشات بينما نحن نمارس القتل فيكم، وسنضع كل الأسوار والحواجز حتى لا تمدوا أياديكم بشربة ماء لمن نريد أن يموت عطشا أو جوعا، ما جدوى كل الأحبار وكل ساعات البث وأنتم لا تملكون القرار بالمساعدة أو التضامن الإنساني؟ فقد سيطر على القرار أبناؤنا أو من يدينون بالولاء لنا. اكتبوا، واصرخوا، وصوروا ما شئتم، وأرسلوا وثائق الإدانة إلى المحاكم والمجالس، ونحن أثناء ذلك سنستمر في قتلكم.

صراخ بلا صدى

ادخلوا قصورنا الرملية سعداء مبتهجين، لا مانع أن يملك كل منكم وسيلة تعبير حتى يشعر بذاته ويعبّر عن مكنونه بكل حرية، بنينا لكم صفحات تُسمى تواصلا اجتماعيا، جعلنا لكل منكم هاتفا به عدة كاميرات، تستطيعون أن تكتبوا ما شئتم، وتصوروا ما شئتم، الحرية للجميع والكتابة لهم، لا احتكار لأدوات التعبير.

فليخرج كل منكم على مدار الساعة يصرخ ويتكلم، يندد وينشر جرائمنا التي نمارسها بكل أسلحة القتل فيكم، طائرات وقنابل ودبابات وعربات مصفحة وقذائف وصواريخ، فرّغوا طاقاتكم في الشجب والشتم والدعاء.

وفي نهاية الليل اذهبوا إلى أسرّتكم وقد ارتاحت ضمائركم، عبّروا عن عجزكم بالدعاء، والعجز أمام قوتنا الجبرية في أوطانكم التي صنعناها، أو قوتنا الغاشمة التي تدمركم، شاهدوا عجزكم واحتضنوا يأسكم وناموا، فقد أديتم ما عليكم ونحن نغفل ما نريد.

عشرة أيام وتدخل الحرب على غزة شهرها السادس، والعالم لا يزال يشاهد مآسيها وجرائمها ولا يتحرك، مرت المهلة التي أعطتها محكمة العدل الدولية للكيان الصهيوني من أجل إيقاف الحرب وتدفق المساعدات وتجنب قتل المدنيين، ولا يزال الكيان يمارس القتل، ويمنع المساعدات، ويقتل الأطفال والنساء، والمحكمة الدولية تستمع لكلمات إدانة لا توقف الحرب، ولا تمد مساعدات.

لا تزال غزة صامدة تقدّم نموذجا في المقاومة والدفاع عن الأوطان، وما يحيطها يبحث عن طرق استمرار القتل، أو تحطيم المقاومة وإنهائها، وصمود غزة يكشفنا جميعا، ويهدم كل القصور الهيكلية سواء في محيطها العربي وأمتها الإسلامية، أو قصور العالم الهيكلية التي بناها خلال قرن، بينما لا نملك إلا الكلام، وهل يجدي الكلام أمام دانات الصواريخ؟ ما عاد للكلام جدوى، والصمت عما يحدث في غزة خيانة لضمير العالم، إن كان لا يزال لهذا العالم ضمير.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان