لا حمام سلام ولا غصن زيتون

عنوان المقال من كلمة لوزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية، ماي غولان أمام الكنيست قبل أيام، وهي بطبيعة الحال تكشف عن مستوى التطرف، الذي يستشري في قمة الهرم السياسي الإسرائيلي.
على أن هذا التطرف لا يقتصر على القمة فقط، فالقاعدة الشعبية تتدحرج بدورها، إلى مزيدٍ من التشدد واليمينية، وثنائية الحمائم والصقور لا محل لها إلا في خيالات المطبِّعين العرب؛ أولئك الذين لن يبرؤوا من ضلالاتهم، حتى لو أقسم لهم نتنياهو ثلاثًا على أنه لا يريد سلامًا، ولا يعنيه تحقيق أي تسوية، إلا وفق معادلةٍ لم يتخلَّ عنها، منذ أن تولى رئاسة الحكومة قبل نحو ربع قرن، وهي “السلام مقابل السلام”.
صحيحٌ أن المجتمع الإسرائيلي، لا يخلو من أصوات تطالب بحل الدولتين، أو دولة متعددة الإثنيات، وصحيحٌ أن التواصل مع أصحابها قد يكون مفيدًا لتعضيد قضايانا الوطنية، لكن هؤلاء مقموعون يتعرضون لحملات تخوين فظة، كما حدث للنائب اليساري عن حزب الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، عوفر كسيف، من قبل وزيرة المساواة، إذ قالت عبارتها؛ عنوان المقال.
كان النائب قد وقَّع رسالة تؤيّد دعوى جنوب إفريقيا باتهام الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الغزيّين، فقامت قيامته، وسرعان ما عقد الكنيست جلسة لبحث عزله، حضرتها الوزيرة التي اتهمته بأنه طابور خامس ومموّل من قوى معادية، ويدعم الأعمال المسلحة ضد “وطنه”.. هكذا تستأصل “واحة الديمقراطية” أي صوت يطلب كبح وحشيتها، حتى لو كان يهوديًّا.
وفي سياق ردودها، قالت الوزيرة فوق ذلك، كلامًا نازيًّا بامتياز، منه أنها “فخورة بما فعله الجيش الإسرائيلي في غزة”، وأن “ما حدث سيرسخ في ذهن الفلسطينيين ثمانين عامًا، وسيحكونه لأحفادهم حتى يعرفوا ما فعله اليهود”، و”الجنود الإسرائيليين سيجرُّون السنوَّار من أذنيه إلى السجون، والأفضل أن يقطعوا رأسه”.
بأي مقياس.. هذا كلام يندرج في إطار التحريض المباشر على ارتكاب جرائم حرب، لكن المجتمع الدولي، الذي تسوقه الولايات المتحدة، على طريقة “الكاوبوي والأبقار”، لم يُستنفر ولم يستقبح الأمر، فما دام الضحية عربيًّا، فلا لومٌ على القتلة ولا هم يحزنون.
لم يعد سرًّا أن إدارة الرئيس بايدن، الذي يفخر بصهيونيته المتوارثة عن أبيه، تجاوزت مرحلة التحالف مع إسرائيل، إلى الشراكة في جرائمها، وما من دليل على ذلك أوضح من استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو)، في مجلس الأمن للمرة الثالثة، منذ اندلاع عملية الطوفان، ضد مشروع القرار الجزائري بوقف الحرب على غزة.
والمثير للانتباه أن الفيتو الأمريكي صدر رغم إجماع 13 دولة على وقف العدوان، وامتناع دولة واحدة عن التصويت وهي المملكة المتحدة، فلا تستفسر عن شيء اسمه المجتمع الدولي، ما بقيت معايير التصويت تنحاز للقاتل ضد المقتول.
وهم الدولة الفلسطينية الموعودة
كما أن الفيتو الأمريكي، والامتناع البريطاني، يجعلان التعويل على تصريح من واشنطن وآخر من لندن، بتأييد إقامة دولة فلسطينية، تعويلًا منبتّ الصلة عن الواقع، ففي النهاية لن يفعل “هذا المجتمع الدولي”، إلا ما يُرضي نتنياهو والذين معه، والمؤكد أن مخرجات أوسلو التي لم تعطِ الفلسطينيين “بعد الصوم حتى بصلة”، كما يقول شاعرنا نزار قباني في قصيدته “المهرولون”، تنسف الادعاء بأن الصهاينة مستعدون لسلام، وفق أي شروط.
مضى أكثر من ثلاثين عامًا على أوسلو، والمحصلة الفلسطينية صفر. فما الذي سيدفع هذه الحكومة وهي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل إلى تسوية فيها الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية في حين يولي العالم العربي وجهه شطر تل أبيب؟ وما الذي سيدفعها إلى المرونة إذا كان البيت الأبيض يؤيدها في المنشط والمكره؟
مع كل قذيفة تسقط فوق غزة، تنأى إمكانية السلام، ومع كل جريمة إبادة جماعية، يغدو الحديث عن ضرورة أن تعي إسرائيل أنها تفخخ الأرض أمام المسار التفاوضي، حديثًا لزجًا متنطعًا، فإسرائيل لا تريد تسوية، والأمور تمضي -بإرادتها المعلنة- إلى معادلة صفرية؛ إما نحن وإما هم.
باستثناء أصوات ليست ذات وزن سياسي أو شعبي، فإن القمة والرأس والحكومة والمعارضة في إسرائيل، لا خلاف بينها على شطب الفلسطيني، وجميعهم متشرِّبون بمقولات الأب الروحي للاحتلال، بن غوريون: “العربي الجيد هو العربي الميت”.
إن النزعة الإلغائية متينة الأساس في التركيب البنيوي لدولة الاحتلال، ومن ثم فإن السلام يمثل خطرًا مؤكدًا عليها، وهو الأمر الذي يتبدى جليًا ليس في تصريحات الوزيرة الإسرائيلية فحسب، بل في جميع إجراءات حكومة الحرب في الوقت الراهن.
المزيد من الإجراءات المتطرفة
قبل أيام اقترح وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، تقييد دخول فلسطينيي الداخل والضفة الغربية والقدس المحتلة، خلال شهر رمضان، إلى المسجد الأقصى، وعلى الفور أيّدت حكومة نتنياهو القرار، رغم صيحات التحذير -وكثير منها في الداخل الإسرائيلي- من خطورة اشتعال انتفاضة ثالثة، وبخاصة أن عملية الطوفان اندلعت في الأصل، إثر اجتياح بن غفير المسجد مرات، بينما كانت الانتفاضة الثانية اندلعت عام 2000 ردًّا على اقتحامه كذلك، من قبل الإرهابي إسحاق شارون.
وإذا كان قرار تقييد دخول الفلسطينيين، لم يدخل حيز التنفيذ بعد، إذ هناك مناقشات ومسارات قانونية ستسبق ذلك، فإن أغلب الظن أنه سيُمرَّر، ذلك أنه يمثل غاية لحكومة نتنياهو، وله هو شخصيًّا.
تفجير الأوضاع بانتفاضة ثالثة، سيعزز حجة التهديد بخطر وجودي، مما سيكفل لنتنياهو الذي يعاني نزيفًا فادحًا لشعبيته، تسكين الرأي العام الغاضب من أداء حكومته قبل وبعد “الطوفان”، فضلًا عن أن ذلك سيعطيه ورقة توت يتوارى خلفها، أمام “الغضبة الشعبية” العالمية، إزاء جرائمه الموثقة صوتًا وصورة.
لقد صدقت الوزيرة الإسرائيلية إذ قالت: لا حمام سلام ولا أغصان زيتون.. لكن عبارتها لا تنسحب على الفلسطينيين وحدهم، بل على قاطني قصور الحكم العربية، ممن انحرفت بوصلاتهم، فإذا بهم يُؤثمون المقاومة ويعتبرونها متطرفة لمجرد أنها ذات مرجعية إسلامية، في حين يغضون أبصارهم عن أن نظام إسرائيل السياسي والاجتماعي، يجسد أفظع أنواع التطرف والإرهاب الديني في التاريخ.
ومن الدلائل على أن السلام مع الاحتلال محض خرافة، أن إسرائيل تمضي في مؤامرة تهجير الغزيِّين إلى شبه جزيرة سيناء، رغم ما سيمثله ذلك من اعتداء مباشر على مصر، وهي أول دولة عربية دشنت مسار التطبيع، من دون أن يكترث الاحتلال بذلك، فلا أمن مصر يهمهما، ولا السلام يعنيها، ما دامت تلتهم الأرض، عبر معادلة “أرض أكثر.. عرب أقل”، وفق تعبير المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي.
نعود إلى نزار قباني، في قصيدته “المهرولون”، التي أسفر ذيوعها بعد أوسلو عن دخول مصطلح “الهرولة” من باب الأدب إلى السياسة، فنطرح السؤال: متى يتوقف العرب عن الهرولة؟
ألم تنجلِ الحقيقة؟
الحقيقة أن لا حمام سلام، ولا أغصان زيتون.